شاب في مقتبل العمر يعبر دروب الزرع وفيافي النخل، تتساقط عليه الأفكار العابرة للحدود تباعًا، فتأسره دهشة وإعجابًا، يتمثلها قناعة ورضا، يرى المناجل مغروسات في جذوع الباسقات، أخذ واحدًا ولوح به في الهواء، تبسم الصحب والمطرقة صخب وقوة كفاح، مرفوعة بأيدي الرفاق، شعار شكلوه عناقًا، رمزًا، وعيًا، وانطلاقًا، كفًا بكف أنشدوا سفرا لمواكب الارتحال.
افتتان وانعتاق ولهيب أشواق، مغامرة أخذت الشاب من لهيب الخليج لمرابع مدن الثلج، رقص فرحًا بحلم الوصول عام 1975م، تتناثر عليه زخات مطر ووجوه الحسناوات، الساحة الحمراء تعزف لحن الحالمين القادمين من أصقاع الدنيا، الشبيبة يتغنون بأعياد العمال والثورة والنصر على النازية.
سحر الشاب بكل ما يرى من بشر وشجر وحجر وأمجاد أمه، إنه فنان سعودي أدهشه كل شيء في بلاد القياصرة والبلاشفة، واستجاب لدقات قلبه من أول نظرة، وقع في غرام فنانة روسية وهما على مقاعد الدرس، لقد جمعهما الفن والحب في رحاب أكاديمية “سوريكوف” للفنون بموسكو عاصمة الاتحاد السوفيتي، عناق القلوب أثمر عن الاقتران المقدس 1980، وأصبح كلاهما مرآة للآخر، أكملا مهمتيهما الدراسية بالحصول على درجة الماجستير، الزوج متخصص بفن “الجرافيكس”، والزوجة في مجال “التصوير وكتب رسوم الأطفال”، يدًا بيد جاسا طول البلاد عرضًا وطولًا، تاريخًا وحضارة وفنًا، والصور نواطق، والعشق أنفاس هواء.
يقرآن أشعار بوشكين ويستمتعان بسمفونية “بحيرة البجع” للعبقري الرومانتيكي “تشايكوفسكي”، رسل الشوق وأغاني الحب تزف أحلى الذكريات مع الممثل المرموق والشاعر الرقيق ومطرب الشعب المحبوب “فيسوتسكي”، وفي غمرة الفرح يستل من القلب الفرح، فجأة الحرب الباردة أطاحت بقلعة المعسكر الشرقي عام 91م، وضربته في الصميم، تهاوى صرح الاتحاد وتفككت جمهورياته الخمسة عشر، وسقط البيرق الأحمر، مرعب الإمبريالية التي كانت تسمي الكيان في أدبياتها “إمبراطورية الشر”.
تبخرت أحلام اليسار في كل مكان وأحلام الكادحين سراب، انطفأت مشاعل النضال، وخبئ سعي الزوجين لنيل شهادة الدكتوراه، السخاء المجاني لطلب العلم توارى عن الأنظار، والدعم في كل شيء تقلص إلى اللاشيء، البروستريكا تشيع مجدًا ساد 70 عامًا إلى مثواه الأخير.
الموسى ونتاليا حزما حقائبهما واستوطنا دولة الإمارات، والتدريس وظيفة الزوج في مدارس أبوظبي، توطدت علاقاته مع بعض الشيوخ وأهل الفن، إيقاع أيامه مفعم بالإنتاج الفني، لكن المتربصين له نقلوه عنوة للتدريس في مدارس إمارة الفجيرة، أبى أن ينصاع أو ينقاد، استقال من مهنة التدريس وخرج من البلاد بعد أن مكث فيها خمس سنوات، رجع إلى روسيا ثانيةً لكن ليس كما جاء إليها أول مرة، ثمة متغيرات إقليمية ودولية غيرت القناعات، بارقة أمل تلوح له في الأفق، بأن قدومه أمان، حنين يدفع قلبه لمعانقة الأهل ورؤية الأرحام.
وأخيرًا رجع المغترب الفنان عبد الستار علي الموسى برفقة شريكة عمره “نتاليا ريدر”، عاد إلى أرض الوطن 2006 بعد غياب 31 عامًا، رجع يسأل عن الصحب والخلان يتفقد أحساء الأمس، يبحث عن “فرجان لول”، يعبر دروب الرفاعة والفاضلية، هنا مرابع الطفولة والصبا، ينظر لمنازل تقادم عهدها، ألفاها مبتورة مقطعة الأوصال، “القص” لم يرحمها بحجج التوسعة، وأخرى مهجورة من أهلها، أصبحت مأوى للبنغاليين والهنود، أنفاس الذكرى تتوه بين المتغير والتحسر على ماضٍ تولى، يتفرس في الوجوه التي غادرها يافعًا ورجع إليها كهلًا، ينظر في حيرة وارتباك؛ “أهذا فلان ابن فلان”، ملامح حفرها الزمن بوشمه المجعد، ونساء الأهل المقربين منه جدًا يدنين عليهن من جلابيبهن فلا يكاد يعرفهن، يحاكيهن كالغريب، وبكلفة في الكلام، سماحة الماضي وبساطة العيش ضاعت في بؤس الحاضر.
يطرق أبوابًا عبرها سنين خلت، ينادي أهذا بيت العم أم بيت الخال، يتلمس أخشابًا مغبرة وأقفالًا صدئة، يرفع بصره للأعلى لنوافذ طلت منها وجوه الأحباب، لم ير إلا قططًا تموء وأخرى مفتوحة على مصراعيها تعبث بها الريح، تفرق الأهل لنزل حديثة، والبعض ضمهم التراب.
خطواته لا تعرف وجهتها، يعبر الدروب تائهًا كمن ضيَّع الديار، يخاطب ذا الجدار ويقبل ذا الجدار، وأخذ ينشد مع خالد الشيخ بأنين الملتاع “وين الضحك والفرح، وين الأهل والدار، وين الفريج الذي بين المحبة دار، اهنيه عرفنا اللعب وهنيه تمشينا، وهناك عشة سعف فيها تعشينا، روووح يا زمان الحزن بسنينك الشينة، ماظن يعود الفرح.. إلا بأهالي الدار”.