– نُحقق الأحلام
تعرف “علي” على فتاة عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي كان اسمها هناك “حلم مسجون” استمرت محادثتهما لمدة ثلاثة أشهر تقريبا.
أُعجب بها، أحبها، إذا أردنا أن نحصي كم ساعة يتحدث معها في اليوم فالأولى أن نقول كم ساعة لا يتحدث معها في اليوم، ٧ ساعات هي فقط المدة التي قد لا يتحدث معها فيها؛ إنها ساعات نومه، وقد تراوده حينها في أحلامه.
عَشِقها.. أدمنَها، فكرة واحدة فقط هي المتواجدة في ذهنه؛ ليلى، اسمها ليلى وهو مجنون ليلى.
اتفقا على رؤية بعضهما قبل أن يتخذا قرار الزواج، في تلك اللحظات مزيج من المشاعر المتضاربة تجتاحهما؛ خوفٌ تُخمده لهفة، وشوق يحدوه حب، وعقلانية تُسكرها عاطفة.
هو ذاهب للقياها ومشاعره ترقص طرباً ولسان حالها:
يا حبيبي كُنتِ واحشني… من غير ما أشوفك وتشوفني
والقدر الحلو أهو جابني… وجابك علشان تقابلني
كلمات: حسين السيد
التقيا في ذلك المطعم، تأكدت مشاعرهما ازدادت رغبتهما في بعضهما.
علي: هذه هي الفتاة التي كنت أحلم بها.
ليلى: هذا هو من كنت أراه في كل مشهور أُعجب به.
علي: سوف أكون العشيق والحبيب والزوج الصديق المخلص لكِ ليلى.
ليلى: منذ أن رأيتك علمت أني سأحبك حباً أزليّاً نقيا طاهراً مسرمداً.
بعد حرب تلاقح المشاعر هذه، تزوجا وأصبحا من أكثر الأزواج شاعرية ورومانسية في الخلق، بعدها انتقلا للمرحلة الثانية في بناء الأسرة، أنجبا عدة أبناء.
الأبناء كانوا هم الأكثر سعادة من بين الجميع لأن علي وليلى هم الوالدان، فمن الطبيعي أن يكون ذلك، فالحب الفائض بينهما ومنهما لابد أن يُغلف أطفالهما ويحتويهم ويحميهم ويغذيهم فيكبرون عليه، إنها الأسرة المثالية التي تستنشق الحب، وتحيا بالحب، وتتربى بالحب وتُهدي الحب، وتدعو للحب.
كنت أتمنى أن تكون مسار الأحداث هكذا ولكن للأسف تلك الأحداث ما هي إلا من نسج الحب، هي أمنياتٌ أتمناها لكل أسرة، ولكن ما حدث هو:
– كابوسُ الواقع
بعد أن قررا اللقاء من أجل التعرف على بعضيهما بشكل أوسع، وكل يرى الآخر عن قرب (مع العلم أن علي لم ير صورة ليلى أبداً بعكسها هي؛ فقد رأت الكثير من الصور له على صفحته بالإنستقرام) والبدء في التخطيط للزواج بطلب من ليلى وإلحاح شديد، والآن ها قد جاء وقت اللقاء.
علي دخل المطعم ينتظر قدوم ليلى مرت ربع ساعة ولم تأت لمقابلته.
علي (مرسلاً في الواتساب): أين أنتِ ليلى؟
ليلى: أنا موجودة في المطعم، منذ أكثر من عشر دقائق، يبدو أنك لم تتعرف عليّ.
علي: لا لم أنتبه لك، رأيت فقط فتاتين دخلتا المطعم منذ قليل.
ليلى: سوف أرفع يدي مشيرة لك، أنا بآخر المطعم، انظر وسوف تراني.
علي يُحدث نفسه عندما رأى ليلى لأول مرة: لاااا، يا رب ما تكون هذه ليلى، عندما كنت أسألها عن أشباهها وأوصافها كانت دائماً تُجيب وتقول: “أنا جميلة ومثيرة ولا توجد من تُضاهي جمالي وفتنتي، بصمة ربانية أنا لا تتكرر”، تباً، تباً لي، يبدو أنني أنا من وقعت في مصيدة لا تتكرر.
جلسا على نفس الطاولة كلٌّ يحدق ويُبحر في الآخر، تحدثا قليلاً، ليس علي فقط من شعر بالغربة عند رؤية ليلى، حتى ليلى بعد الحديث مع علي عن قرب شعرت أنها المرة الأولى التي تُحدثه فيها، شعرت أنها لم تكن تعرفه أبداً من قبل، وأنها كانت تتحدث مع شخص آخر طيلة الأشهر الماضية من حديثهما على مواقع التواصل الاجتماعي.
عَلِمت أنّها كانت تجمع أجزاءه المتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فتَرسِم صورةً له في مخيلتها، وتُكمل الأجزاء الغامضة التي لم تستطع الوصول إليها، وتُظهره أخيراً بالصورة التي تُحبها، علمت أنها كانت لا ترى إلا الجميل منه، لأن رؤية القبيح فيه يؤذيها.
لم يكن لدى ليلى مانع في إكمال علاقتها معه بهدف التعرف عليه أكثر، واختتام العلاقة بالزواج.
تمت بينهما عدة لقاءات خلال عدة أسابيع.
ليلى تُحدّث نفسها: صوره وأسلوب حديثه وكلماته في الرسائل تُظهر أنه شخص رومانسي وشاعري وطريف، ولكن عندما أراه في الواقع لا أشعر بتلك الأشياء التي شعرت بها وأنا أُحدثه على الإنترنت، أظن بعد الزواج سيُظهر ذلك الجانب الرائع.
وبعد أيام أخبرت ليلى علي أن شاباً قد تقدم لخطبتها:
ليلى: علي ابن عمتي سوف يتقدم لخطبتي.
علي: ماذا تقولين؟ كيف؟
ليلى: عمتي معجبة بي كثيراً وتُريديني زوجة لابنها.
علي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ليلى: ماذا أقول لأهلي الآن، ماذا نفعل؟ هيا تقدم لخطبتي سريعاً.
ليلى: لماذا لا تُعلق؟
علي: آه لقد آلمني كثيراً ما سمعت.
ليلى: وماذا سنفعل الآن؟
علي: قضاها لغيري وابتلاني بحبها… فَهَلاّ بشيءٍ غير ليلى ابتلانِيا.
كلمات: قيس ابن الملوح
ليلى: ما الَّذي تقصده؟
علي: حقيقة لا أريد أن أُضيّع تلك الفرصة من يديك.
ليلى (وكلها دهشة): أي فرصة؟ ما الذي تقوله أنت؟
علي: أظن أن الله لم يكتب لنا أن نكون سويًا، أخبرتُ أهلي قبل عدة أيام بزواجنا، ورفضوا ذلك الزواج رفضا تاماً، والآن جاءكِ رزقٌ من السماء فكيف تُفرّطين فيه؟ ابن عمتك، لحمه لحمك ودمه دمك، وظيفة مرموقة، ومال وفير، وبكل المقاييس يفوقني، ولأنني أحبك، وسعادتك تُسعدني فلا أستطيع أن أكون أنانياً وأكون عائقاً بينكِ وبين من سوف يُقدم لك السعادة حقاً.
علي لم يكن دافعه الحقيقي في هذه الكلمات البحث عن مصلحة ليلى، بل كان ما يدفعه للقيام بذلك منفعته الشخصية، فهو منذ اللحظة الأولى التي رآها بالمطعم تحطمت كل آماله، وأراد الفرار منها بأي طريقة، فهو لا يُريدها، وجاءت الفرصة بين يديه لكي يفرّ بغريزته منها.
وتم فراق علي وليلى بتجربة مريرة، مرارتها كانت من نصيب ليلى إذ عايشت ذكراها لعدة أشهر.
وأما علي بعد أن انسحب من علاقته بليلى وكله أسفٌ وندمٌ وحزنٌ وحسرةٌ، فهو الآن من شدة ندمه في العلاقة رقم خمسة بعد ليلى!
ولكن حتى أكون صادقا معكم لم تكن تلك النهاية الحقيقية للقصة، فهنالك جزء من رسم الخيال، أعدكم هذا هو المسار الأخير الواقعي والحقيقي لأحداثها.
– مغازلةُ الذات
بعد عدة أشهر من الدردشات والأحاديث والسواليف والقصص بين علي وليلى، وبعد أن أصبح علي يُسمى بمُدمن ليلى، وبعد وصول العشق إلى ذروته.
علي يتنفسها ويلهج بذكرها صبحاً ومساء، يرقص قلبه طرباً عند سماع صوت جرس التنبيه بوصول إشعار رسالة منها.
لم يستطع علي الانتظار أكثر، إنه التلهف في أقصى مراحله.
اتفقا على اللقاء في ذلك المطعم، انتظرها بفارغ الصبر، إذْ لا يملك إلا الانتظار، توقفت جميع أحاسيسه، أفكاره، مشاعره، كلها تنتظر معه قدوم معشوقته.
وفعلاً ها قد قدمت ليلى، جلست أمامه على تلك الطاولة، علي احمر لونه خجلاً.
علي: نادر! ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ما الذي أتي بك في هذا الوقت؟
نادر وهو يضحك: معشوقتك ليلى بين يديك.
لم يستوعب علي ذلك من هول الصدمة، ليلى نفسها نادر.
ذكرتني هذه الصدمة بصدمة رئيس مجلة التحرير في مسلسل النمر المقنع بالحلقة الأخيرة النسخة المدبلجة عربياً عندما نزع النمر المقنع قناعه، فقال رئيسه بالعمل: “صحفيٌ فاشلٌ وكسول ماذا يفعل على الحلبة؟!”، فردّ عليه أحد الصحفيين المتواجدين فقال: “تحملتك كثيراً يا غبي النمر نفسه تامر”.
البُعد النفسي في القصة
– عندما نتحدث مع أحد لا نعرفه على الإنترنت عبر الرسائل الإلكترونية، ترسم أدمغتنا له صورة مكملة فيها ما نقص من أجزاء، وغالباً تلك الصورة تكون غير حقيقية.
– الحديث عبر الرسائل المكتوبة غالباً ما يكون حديثاً ينقصه الكثير، وقد تُضيف من ذاتك عليه الكثير، فالكلمات سوف تصلنا جامدة ميتة تنقصها لغة الجسد، نبرة الصوت، المشاعر، الأحاسيس، الأسلوب، وقد تُكمل أدمغتنا تلك النواقص فنقرأها بعالمنا الداخلي، فترتسم لنا صورة مغايرة للواقع.
– نحن عندما نقرأ تلك الكلمات الخالية من المشاعر غالبا سنسُقط عليها كثيراً من ذواتنا.
– حديث الحب مع شخص لا تعرفه، لم تره ولم تسمع صوته، تتواصل معه فقط عن طريق الرسائل المكتوبة، أشبه بمغازلة شخص لذاته، لخياله، لرغباته.
– ترى في ذلك الشخص ما تحب أن تراه فقط، وما تراه فيه غالباً هو جزء ينتمي لك.
– عبر الرسائل الإلكترونية يتحدثان، يتسامران، طويلاً، وعندما يلتقيان يكتشف أنه كان يتسامر مع شخصية من نسج خياله.
– يُحدثها عبر الرسائل الإلكترونية، يقول بدافع الزواج، ولا يعلم بأنه لشيء آخر، وعند قُرب وقوع الزواج يفر فرار القطط، لا يدري لماذا؟ لا شعورياً هو يرفض تلك الزيجة، فقد تربى منذ نعومة أظفاره على أن الفتاة التي تحدثت يوماً معه بغير علم أهلها، خُلقت خائنة، فلن تصلح أن تكون أمّاً لأبنائه.
– هناك من يرتدي قناع حمل وديع على مواقع التواصل الاجتماعي ليخفي أنيابه ومخالبه المرعبة، كي يتحيّن الفرصة المناسبة للانقضاض.
هادي الدخيل
اختصاصي نفسي