هي حياتنا، يتنافس عليها شيئان فوق الحائط: الساعةُ والتقويم. مواعيد قبل أن تنتهي الساعة، وأخرى قبل أن ينتهي اليوم وقبل أن تنتهي السنة ثم العمر كله. مربعاتٌ في واحدٍ منها تدور أرضنا حول محورها دورةً كاملة، وفي ٣٦٥ منها تدور أرضنا دورةً كاملةً حول شمسنا!
هل جلست يوماً تحت الشمس وطاف ظلٌّ سريعاً فوق رأسك؟ ربما كان طائرًا! هكذا نشعر بمرور الساعات والأيام، كما نشعر بمرور الطائر فوق رؤوسنا. لكن في هذهِ السرعة المذهلة تنهض أممٌ وتنام أخرى، وينجح أشخاصٌ ويفشل آخرون. وكل هذا النجاح والفشل لأن الأفرادَ والأمم إما عاشوا وبقوا في مربعٍ واحد وغفلوا عن البقية فوق ورقة التقويم، أو جالت عقولهم وأفكارهم فيها دفعةً واحدةً ورسموا خارطةَ طريقٍ بين أولها وآخرها.
نظرتُ اليومَ إلى التقويم الورقي فوق الحائط الذي اختفى تقريباً من الوجود وصار في جيبِ كل واحدٍ منا، فلم أر سوى مربعاتٍ قليلة حتى تنتهي السنة التي نحنُ فيها كلها، وهذه هي أثمن أيام السنة، فيها يتفحص ويدقق التاجرُ في حساب الربح والخسارة، ماذا باع وماذا سوف يبيع؟ وتنظر الشركات والدول فيما سوف تكون عليه في الأمورُ في العام المقبل، وربما في الأعوام المقبلة، وترسم خططها لكي تنجح!
قاعدة الربح والخسارة لا تستثنينا، فنحن البسطاء نبيع ونشتري أيضاً! نبيع أعمارنا ونحصل على شيءٍ ما عوضاً عنها، وعلينا أن نسألَ أنفسنا: هل ربحنا أم خسرنا؟ لو نظر كلُّ تاجر إلى رفوفِ البضاعة التي اصطفت في متجره سوف يرى أن ٨٠% مما ربح أو أكثر جاء من ٢٠% أو أقل من البضائع التي ازدانت بها الرفوف، إِلاَّ إنه لن يستطيع أَلاَّ بيع ما لا يربح منه القليل أيضا، فذلك من لوازم التجارة. هكذا نحن لو قمنا بجردة حساب، سوف نرى أن تجارتنا في ساعاتنا وسنواتنا كان ربحها الوافر من ساعاتٍ قليلة، والكثير أضعناها وكانت من لوازم الحياة.
كلنا مدعوون للاحتفاء وتكريم ثم تقييم ما مضى وما سوف يأتي، أنتم أيها المقبلون على ليونةِ الحياة وخشونتها وتحدياتها، وأنتم أيضاً من تظنونَ أنها انتهت بانتهاء العمل والوظيفة، فالحياة لا تنتهي إلا بعد أن تشطبوا آخرَ مربعٍ فوق آخر تقويمٍ تهديه لكم الأيام!
تلك الأيام التي في المربعات والسنين لن تعود مهما رغبنا، وما نراه من عودة ليس سوى تكرار لما نضعه في إناء الزمن فيخيل لنا أن الآلامَ والأفراح، بل التاريخ يعود! ولكن ما يعود هو نجاحاتنا التي نصنع منها التاريخ والخلود فيه، أو خيباتنا التي تطردنا من صفحاتِ التاريخ، والأمر في مجمله يعود لما نختار.
ولكي لا تسرق منا لصوص العمر ما نملأ به وعاءَ الزمن ينصحنا الله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ } [القصص:٧٧]. وتأتي وصيةُ الإمام علي بن أبي طالب (ع): “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”.