ثمة جدل دائم بين جهتين تمنح أحدهما الحرية المطلقة في حدود القانون الفضل في تنشئة مجتمع خالٍ من الازدواجية وبعيد كل البعد عن عقدة كشف المستور والانجرار إليه، فيما تجد الأخرى أن تقييد الحرية يسهم في حماية وحصانة الفرد من منزلقات أخلاقية قد تقوده في سن مبكرة إلى الانحراف، ولكل رأي منهما فلسفته المنطقية التي ينافح من أجل نشرها والتسويق لها، ففي حين يجد الأول أن الحرية تجعلنا نبصر الإنسان وهو في صورته الحقيقية غير المزيفة بثوب النفاق أو الخوف، وغير المندفعة لكشف الحجب التي منعت عنها.
فإن الجهة الأخرى تجد أن الإنسان بطبعه مليء بالغرائز الدافعة له لارتكاب المآثم لا سيما في سنينه المبكرة، لذا فإشاعة جو متزن خالٍ مما يتنافى مع الأخلاق يجعل دوافع الانحراف أقل حدة ويسهم في بناء شاب أكثر مناعة واتزانًا.
قدم أرسطو مفهومًا للحرية عرفه بـ«إنصاف الفرد وتحريره من كل أشكال الحتميّة»، كما أكد على أن «الرذائل والفضائل التي نفعلها هي مسؤوليّة شخصيّة»، يعني ذلك أن الإنسان هو في حقيقته المعني بالجانب الأخلاقي لنفسه ولدائرته، وأنَّه ومتى ما أحسنت الأدوات التربوية بكل أشكالها تربيته كما يجب فلن يتأثر في الغالب بأي مستوى من مستويات الحرية.
أمثلة النموذجين كثيرة، وتؤكد – في نظر دعاة الحرية المطلقة – حقيقة أنَّ تقييد الحريات لم يقد مجتمعاتها إلى المثل التي من أجلها تم تقييد تلك الحريات، وهم بذلك يجدون ذلك دليلًا وجدانيًا على عدم جدوى هذا الأمر، شخصيًا أجد نفسي مختلفًا مع هؤلاء، وأجد أنَّ الانفلات الأخلاقي الذي لازم الحجب وتقييد الحريات يعبر عن ضعف في الدور التربوي الذي تقوم بها الجهات المعنية به، فالإنسان لا سيما في طفولته يحتاج أيما حاجة لبناء قناعاته على أساس الدليل والبرهان المنطقي الذي يتناسب مع إدراكاته، ويحتاج بشكل دائم إلى تدعيم تلك القناعات بأدلة تصمد في وجه مئات الشبهات التي تطرح من هنا وهناك، لذا فمحاولة تصوير أنَّ الكبت هو السبب الرئيس للانفلات الأخلاقي الخفي هو كما أراه غير دقيق، والصحيح هو أن هذا الإنسان لم ينعم بدور تربوي خلق فيه في سن مبكرة الأخلاق الفاضلة وجعلها جزءًا لا يتجزأ منه.
حينما تسير السيارة من أعلى جبل إلى منخفض، فإنَّها في الغالب تحتاج إلى المكابح لإيقاف اندفاعها القسري، الإنسان كما أعتقد هو تمامًا مثل هذه السيارة المندفعة، فهو يحتاج أيما حاجة لوجود مكابح تقيه من هذا الاندفاع القسري نحو تلبية نوازعه الغرائزية، الحرية المطلقة لا تحقق حسب رأيي الشخصي هذا المعنى بل هي تمامًا تحقق العكس من خلال تهيئة أجواء مناسبة للانفلات الأخلاقي، لذا فإنني مع العمل على بناء الإنسان أخلاقيًا من جانب، وبناء أجواء تساعده على الالتزام بها من جانبٍ آخر وإن استدعى ذلك تقييد الحرية وضبطها.
المصدر: آراء سعودية