غَمَرَنا جمالُ الشاطئ، أنا وصديقٌ لي، حينَ زرناه في اعتدالِ نسائم هذا الشهر. كان الجلاسُ منشغلين به عن جماله، فلم يكن سوى الطيور المهاجرة، واقفةٌ على مراكبهِ القديمة، ارتمت في أحضان الشواطئ الدافئة هاربةً من من شواطئ الغرب الباردة في فصل الشتاء.
ذاكرتي بشواطئ البحر تعود بي في الغالب إلى ليالي الخريفِ والشتاء حين كان والدي وبقية البحارة من أصحابه يجتمعون ليلاً في بيتٍ صغير “المضوي” من جريد النخل على ضفاف البحر كلِّ ليلة يقطعون من الزمان بعضه، في انتظار استراحة أمواج البحر أن تكفَّ عن الهيجان حتى يدخلوا إلى عمق البحر على دوابهم، يجود البحرُ عليهم يوماً ويعودون دونَ شيءٍ في اليومِ الذي بعده!
تغير شيئان منذ الصبا وحتى الآن: لم أعد أر كثيراً من أنواعِ الأسماك التي كان البحر يعطيها لوالدي، أسماءٌ وأنواعٌ لا أراها إلا ما ندر في الأسواق. ثمَّ لم يعد البحر عميقاً أزرق عند نهاياته، بل ينتهي بنفاياتِ البشر وما يرمونه فيه، واختفى كلُّ ذلك الجمال العذري.
يحذر المختصون في العنايةِ بالبيئة أن محيطاتنا وبحارنا بدأت تمتلئ بالنفاياتِ البشرية وأغلبها من مادة “البلاستيك” ومخلفات الصناعة. ويقولون إن عدد مواد البلاستيك ومخلفات المصانع سوف يفوق عدد الأسماك بحلول عام ٢٠٥٠م إذا لم يتمكن ذوو الاختصاص والمسؤولون من المسارعةِ للحدِّ من هذا التلوث.
قد يكون هذا التحذير مبالغًا فيه ومن باب الصرخة العالية في وجه من يسلب الجمالَ من البحار والمحيطات ويلوثها، وبالتالي يقول لنا: إنَّ هذه النعم لن تدوم ولن يكون في استطاعة هذه المياه أن تواصلَ عطاءها لنا من الحياة البحرية إن حاربناها. أو يكون واقعاً حيث رأينا، أنا وصاحبي، في تلك الدقائق القليلة التي قضيناها كمياتٍ كبيرة من القوارير البلاستيكية والنفايات البشرية خَلَّفها زوارُ الشاطئ التي حتماً وجدت طريقها في البحر وسوف تبقى فيه مئات السنين قبل أن تختفي.
كم بودي أن أقول لك: نقطةٌ في المحيط لا تضر. ولكن الواقع يحكي أن ما نقذفه في البحر من أجزاء البلاستيك يجد طريقه إلى أمعاءِ الأسماك والطيور البحرية، ومن ثم إلى أمعائنا مما يجعل صحتنا في خطر بسبب تناولنا لهذه الأسماك.
كان الناس يحذرون في القديم من غدر البحر، يروون حكايات من ماتوا فيه، ويقولون “البحر غدار”، وبالفعل كانت المراكب الخشبية الصغيرة والبحارة ربما لا تعود ويغرقها البحر في أمواجه. أما الآن فحقٌ أن يشكوَ البحرُ من عقوقِ الإنسان له وإهماله.
زر البحر واستمتع بجمال شواطئه وناجِه، فالبحر خير من يحفظ الأسرار، وتذكر أن ما تقذفه فيه سوف يعود لك ولي ولو بعد حين! اكتب أحلامك وأحلامي في ورقة وارمها فوق شطآن البحر، حتماً يرجعها البحر إلى أحفادنا ليقرأوها. إن لم تبق الورقة فسوف تبقى الكلمات والآمال. أنا أمل وأنت تكتب:
مراكبي عادت إليكَ
وملت الترحالَ والهجرة
قد متَّ من كمدِ الفراق
فهل نسيتَ بأننا منذ افترقنا
أنا من مات حزناً ألفَ مرة؟