لطالما كان عقل الإنسان في حالة عدم وئام بينه وبين القلب، وبين محسوساته. فيصدق ما لا يرى ويُكَذّب ما يرى. فتراه يصدق بالجن والأرواح الشريرة وعمل السحر والقوى الخارقة للعين، وهي كلها أمور لا ترى بالعين ولا تحس باللمس ولا تشم ولا يمكن التوصل إليها لأنها لطيفة ومجردة ولا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق العقل فقط.
بينما يُكَذِّب أمورًا يراها نصب عينيه ويسمعها بأذنه ويضع يده عليها؛ ولكن تأتيه الجرأة والقوة على أن يُكَذِب وجودها ويفسخ وجودها من الواقع إلى الوهم. فيرى خيانة السياسي وكذب المتدين وعنصرية الأب وأنانية الأم… لكنه يرفض إطلاق المسمى الحقيقي لها.
واعجباه!
قد أجاد الشاعر لما قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
إنما يعتمد العقل على التصورات ويخزّنها كي ينسج منها نسيج الخيال. أي أنه يستدعي تلك الصور ليرسم لنفسه صورة ترضي هواه وحالته النفسية لا لأن ذاك الواقع.
لطالما خدع الإنسان نفسه ولطالما ظلم الإنسان نفسه ولطالما جحد نعمة وأنكر أخرى للوهم الذي يعيشه هو فقط لا غيره.
{وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّـهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}…
ولأن الإنسان يستوحش بالوحدة ويستأنس بالكثرة، فإنه يجهد نفسه في إثبات فكرته وإثبات وهمه ليشاركه الآخرون.
ولهذا أقول: “إن الوهم خيانة للإنسان ومن ثم يتحول إلى وهم بالخيانة”. فعلى سبيل المثال لا الحصر:
بنت تشعر أنها جميلة وتثني أمها على ذلك الجمال، لكن لا يأتي أحد لخطبتها. فتوهم نفسها بحديث من أحد المتزوجين قائلاً: “لو كنت أعرفك قبل زواجي لتزوجتك”.
وأن اهتمام أحد الزملاء عبارة عن حبّ وغرام. فهنا قدّ خانها الوهم.
من بعد ذاك تتوهم أن كل شخص – تمنت أن يتمناها – خانها بعدم المبادلة. فهنا يكون وهم الخيانة.