آه ثم آه ولكن

قال تعالى: {كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة الآية ١٦٧].
من ألوان العذاب الأخروي هو تقطع النفس بالندم الشديد والألم الذي لا يطاق على التفريط في الدنيا وتضيبع الفرص للتكامل والتخلي عن النواقص والعيوب، واللهث خلف الشهوات دون نظر لما تخلفه من عواقب كارثية، ليست تلك العواقب على مستوى حياة الخلود الأخروي فقط بل حتى ما يخسره في الدنيا على مستوى هويته ومكانته الاجتماعية. فالمكانة التي كرمه الباري بها وأعده وهيأه لها بكل القدرات العقلية لتبوئها ونيلها هي الكمال والتحرر من أغلال النفس (هي الأهواء والميول النفسية المتفلتة)، فالعاكف على الخطايا ينسلخ من هويته الإنسانية الكاملة والتي يترفع من خلالها عن التسافل للبهيمية القائمة على الشهوات فقط، كما أن مكانته الاجتماعية وتحليه بالحكمة والاستقامة هو ما يرفعه لمرتبة القدوة والحظوة الاجتماعية، واللهث خلف النزوات يحيله لأسير وراء مطامعه وجشعه وجهله وغروره.

و أما مشهد الألم الأشد والحقيقي فهو بصره الذي يرى حقيقة الشهوات بأنها هباء لا قيمة لها أصلا، وما يعلي المقام هو الطاعة للأوامر الإلهية التي ترسم له معالم خط الرفعة والاستقامة والقوة النفسية، ولكنه تخلى عن كل ذلك وباء بالخسران والحسرة.

هناك صورة واهمة عشعشت في ذهنه في الدنيا وهي تصور النزوات كغايات يشغل نفسه بها ويشعل جذوة عقله بنيرانها دون إدراك لعواقبها والنتائج المترتبة عليها، وما يثير الدهشة من وقوعه في براثن جهله وضعف إرادته هو إنكاره على كل من يسير في طريق وضعت عليه علامة تدل على حفرة كبيرة به بعد مسافة معينة، ويحاول بكل السبل أن يلفت انتباهه وتحذيره مما ينتظره من وقوع، أفلم يكن هو من غض بصره وأصم أذنه عن صوت عقله وضميره الذي يؤنّبه ويعطيه من إشارات التحذير من التمادي والتغلغل في هذا الاتجاه؟!

الصورة اليوم – في عالم الآخرة – تتضح ويتبين له كامل الضرر والخسارة التي باء بها، ولكن دون أن يكون له أي فرصة للتراجع والتعويض عما قارفه، بإتيان الصالحات وإلباس نفسه لباس التقوى والخشية من الله تعالى، ولكن هيهات لا رجعة!

الحسرة الأخروية ناتجة عن الصورة البينة لملخص عمره وأعماله، وأنه لم يكن – في الحقيقة – إلا يدًا طيعة وأسيرًا مكبلًا بأغلال تزيين نفسه الأمارة بالسوء.

وهذا التصوير لمشهد مستقبلي هو من الألطاف الإلهية المنبهة إلى ما يمكن أن يراه الإنسان من نتائج مترتبة على عمل السيئات، فصاحب التفكير السليم يربط دائما بين خطواته وتصرفاته ونتائجها وعواقبها، وعملية الربط والملازمة بين التصور العقلي الواعي والفعل الواقعي الخاضع لإرادة تتجنب الأهواء هو ما يوصلنا إلى بر الأمان.


error: المحتوي محمي