ميسورون ولكن..

من المعلوم أن الكرم خُلقَ الأنبياء، وسنة المعصومين عليهم السلام.

وعليه؛ كان التحلي به فضيلة عظمى عبر تاريخ الإنسانية كله، وفي جميع الأديان.

الكرم دين، وتربية، وأصالة، وفكر؛ لذلك فالكرماء لا يفتقرون أبدًا: “ما نقص مالٌ من صدقة”، بل إن هناك مراتب عالية في حسابات السماء لا يمكن الوصول إليها إلا بالجود: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.

إن الرجل الذي يتربى على إكرام الضيف، والسخاء على الجمعيات الخيرية، والأعمال الإنسانية، والمتنعم بنعم الله عليه؛ يختلف جملة وتفصيلًا عن الرجل الذي لم يدخل الضيف داره حتى أرحامه، ولم يكن له وجود في العطاءات الخيرية عبر تاريخه، ولم يجد له الموجه الحقيقي من نفسه وعقله ليدله على الصواب، فضلًا عن الموجه الخارجي كالمنبر الحسيني، أو المسجد، أو الصديق، أو الكتاب، أو الأسرة.

بعضنا يعتبر الكرم وقفًا على أسرته الخاصة فحسب؛ وهذا مفهوم قاصر تمامًا، وبعيد كل البعد عن المعنى الحقيقي للكرم، وإن كان الكرم على العائلة هامًا وجميلًا للغاية.

ما نراه الآن في بعض شرائح المجتمع من عزوف كامل، أو شبه كامل عن اللجان الخيرية والأعمال الإنسانية لدى شريحة لا يستهان بها من الناس؛ ناتج عن عدم الشعور بالمسؤولية من جانب، وعن الخوف من تبعات المسؤولية من جانب آخر.

توالت البراهين القرآنية المشجعة على الكرم نحو قوله تعالى:
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}، وقال الرسول الأكرم ص: “الضيف ينزل برزقه، ويرتحل بذنوب أهل البيت”، وقال: “خيركم من أطعم الطعام”، وقال الإمام الصادق عليه السلام: “من أشبع مؤمنًا وجبت له الجنة”.

وتغنى الشعراء في الجاهلية، فضلًا عن الإسلام المحمدي بهذه الصفة النبيلة واعتبروها جوهر الأخلاق، ولو لم يكن إلا حاتم الطائي نموذجًا لكفى. يكفي حاتم عزاءً ما روي عن الرسول الأكرم ص في حقه “لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه”، وقوله: “هذه أخلاق المؤمنين”؛ حينما ذكرت ابنته سفانة صفات والدها الراحل على سيد الإنسانية.

تربع الكرم على الأخلاق وأصبح في هرمها وعدّه بعض العقلاء طليعة الطلائع.

ومجتمعاتنا المعاصرة في عزوفها عن الكرم؛ لها ذرائع متعددة:
منها المقبولة كالفقر:
إنَّ الكريمَ الذي لا مالَ في يدهِ
مثلُ الشجاع الذي في كفه شللُ..

وهنا لا يفوتني القول بأن الواقع المعاش هو خلاف ذلك؛ لأن الفقراء حقًا هم الأكثر سخاءً من الأغنياء، ومن ذوي الدخل المحدود. ولكن الفقر بذاته عذر لا يختلف عليه العقلاء.

ومنها المهضومة: كعدم وجود مكان في البيت، وعدم وجود زوجة تعي فضل هذه الفضيلة.

ومنها غير المقبولة: كالتعذر بظروف مختلقة لتسليك الأمور والتنصل من الواجبات وهي بلا حدود، وأمثلتها تملأ الخافقين حيث إن لكل فرد آليته الخاصة وظرفه الذي يبتدعه لذلك.

ولأني أرى أن تغير سبل المعيشة وانتقالها من المجتمع البسيط المحافظ على نسيج العلاقات الإنسانية إلى المجتمع المعقد الذي لا يجعل للعلاقات الإنسانية قيمة إلا في حدود الضرورة؛ تغيرت الكثير من العادات والتقاليد الحسنة، وحل محلها خلاف ذلك تحت مبررات لا صحة لها.

نحن لا نقول بأن كل الأخلاق القديمة أو الأصيلة حسنة، ولا بأن كل حديث سيئ مطلقا؛ ولكن نقول بأن الحسن حسن في كل أوقاته سواء كان قديمًا أو محدثًا، وكذلك الحال في الخلق غير الحسن، أي لا علاقة للحداثة أو الأصالة بذلك.

توالت أعذار الناس تجاه واجباتهم الأخلاقية والإنسانية وانحسرت انحسارًا كبيرًا قياسًا بما كانت عليه سابقًا والشواهد ملء البصر.

وهنا لا يفوتني التنويه إلى أن الكرم غير محصور بالإطعام، فهناك ألف ألف باب للكرم قد يكونون أولى وأهم في أحيان كثيرة.

إن أحد أسباب ضعف العلاقات الأسرية وانقطاع بعضها هو البخل المستشري في فئة لا يستهان بها من الناس.

البعض منا يستطيع عمل كل شيء إلا أنه لا يستطيع أن يدفع صدقة جارية تكون عاصمة له في الدنيا، وزادًا له في الآخرة، ولا يستحي من ذلك ولو طرقت بابه ألف مرة. ولست أدري هل أن هؤلاء البخلاء يعرفون حقائقهم ويجحدون؟! أم أنهم يجهلون حتى هذه الحقيقة؟! بلا شك إن كانوا في الحالة الأولى فهي مصيبة بكل أبعادها، وإن كانوا في الحالة الثانية فالمصيبة أعظمُ.

نحن لسنا مع الإسراف تحت أي مبرر، ولا مع العطاء العبثي لكل أحد، ولا مع إعطاء من لا يستحق البتة؛ ولكنا في الوقت نفسه نرى أن البخلاء بحاجة إلى علاج نفسي وأخلاقي ضروري ليصبح المجتمع متوازنًا، كما أني لا أستبعد وجود علاقة مباشرة بين أخطر الأمراض المعنوية المعاصرة كالحسد، والحقد، والغيرة بالبخل.

نحن مع فضيلة الكرم المنظم، وفي أطره وسبله الصحيحة، وبالوسائل المناسبة التي تحفظ الكرامة والعزة والتي لا يصاحبها منٌّ ولا أذى، والمتوجة ببركات السماء للمخلصين.


error: المحتوي محمي