جمع الفقيد الشيخ إبراهيم الميلاد (1385-1441هـ/1965-2019م) في شخصيته بين صفاء النفس وصفاء الذهن، متميزًا بهذه الموازنة المعقدة والصعبة، التي يتفرد بها الأخيار من الناس، ولا يقوى عليها إلا الصالحون، صفاء النفس بحاجة إلى مجاهدات تربوية مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي، وصفاء الذهن بحاجة إلى مجاهدات فكرية مستمرة كذلك لا تتوقف ولا تنتهي.
صفاء النفس يسبق صفاء الذهن ويمهد الطريق له قوة واستعدادًا، وصفاء الذهن يعمق صفاء النفس ويصلبه ويرسخه، تتحقق في صفاء النفس قوة القلب، وفي صفاء الذهن يتحقق قوة العقل، من القلب تنشأ البصيرة، ومن العقل ينشأ البصر، والإنسان بحاجة إلى بصيرة وبصر، بصيرة من الداخل وبصر من الخارج.
من الذي يستطيع في هذه الأزمنة أن يحافظ على صفاء النفس وصفاء الذهن معًا، في ظل ما يحيط بالإنسان من ملوثات تهب عليه وتحاصره من كل جانب، وفي ظل ما يتعرض إليه الإنسان من عداوات وخصومات ونزاعات وخلافات، وفي ظل ما يواجه من تباغض وتحاسد وتحاقد، وفي ظل ما يقابل من إغراءات ومنزلقات وفتن، تعمل كل هذه الحالات فعلها القوي والمؤثر في إعماء القلب، وتسويد الضمير، وإصابة النفس بالغفلة، والخروج عن الجادة السوية، والسقوط في الهاوية.
لذا ليس سهلًا على الإنسان مهما كانت صفته ووضعيته، أن يحافظ على صفاء النفس وصفاء الذهن معًا، لكن هذا ما يحتاجه من ينتمي لطبقة علماء الدين، ومن ينتسب إلى أعلى مقام كمقام الدين، ويعرف بهذه الصفة التي لا تتقدم عليها صفة أخرى، ولا تقارن بأي صفة أخرى، ولا تتفاضل عليها صفة أخرى.
جمع الشيخ إبراهيم بين صفاء النفس وصفاء الذهن، وظهرت هذه السمة وتجلت خلقًا رفيعًا في شخصيته، عرف بهذا الخلق الرفيع وبقي معروفًا به، خصه بهذه الصفة السامية كل من اقترب منه، ومن تواصل معه، ومن تعرف إليه، فكسب محبة الجميع، ومن كسب الأخلاق فقد كسب كل شيء، وما الدين إلا المعاملة.
حافظ الشيخ إبراهيم على خلقه الرفيع مع الجميع، لم يتغير على أحد من هذه الجهة ولم يتبدل، بقي الشيخ إبراهيم هو الشيخ إبراهيم منسجمًا مع نفسه بهذا الخلق الرفيع، يرتاح له من يجالسه، ويأنس لحديثه من يستمع له، يأتلف معه من يصاحبه، البسمة لا تفارقه، ينطق بالصلاح، يحسن كثيرًا تحية الآخرين، ويجيد هذا الفن بكلماته الطيبة.
كان الشيخ إبراهيم موضع ثقة كل من تعرف إليه عن قرب، فكان موضع ثقة المرجعية التي انتسب إليها، إلى جانب ثقة مراجع آخرين وعلماء كبار في إيران والعراق والخليج، ثقة في علمه وأخلاقه وأمانته، وأبلغ شاهد على ذلك أن أحد العلماء الكبار من أسرة علمية معروفة، انتقى الشيخ إبراهيم انتقاء لكي يدرس لفترة من الزمن ثلاثة أو أربعة من أبنائه الطلبة، وكنت على علم بهذا الأمر في وقته.
من جانب آخر، ضرب الشيخ إبراهيم مثلًا رائعًا في صلة الرحم مع عائلته وجميع أقربائه، يتزاور مع الجميع ويتواصل، يعطي من وقته الكثير، يوقر الكبار، ويحترم الصغار، يتعامل بلا تكلف وبأريحية تامة، كانت له صلة ومودة مع كل واحد من أفراد عائلته، لهذا فقد تألم كل واحد من عائلته وأقربائه صغيرًا وكبيرًا، وفجع بغيابه وفقدانه.
أما صفاء الذهن فقد تجلت واضحة وشفافة في أحاديثه وكتاباته وتأليفاته، التي ظهرت عليها ملامح النقاء والصفاء، فكل من اقترب وتعرف على هذه الكتابات والتأليفات تلمس فيها وبسهولة هذه الملامح الدالة على صفاء الذهن، فقد كان قريبًا من المنابع الصافية من القرآن الكريم وأحاديث العترة الطاهرة، يتبصر فيها، ويستقي منها، ويتنور بها.
هذا من ناحية المعنى، أما من ناحية المبنى فقد تجلى صفاء الذهن في أدبه وبيانه وأسلوبه الذي اتسم بالوضوح والجمالية والرصانة، فكان شفافًا ونقيًا، يضاف إلى ذلك أن الشيخ إبراهيم كان ملتفتًا لرسالية الكلمة، مدركًا لبصائر الوحي، متنبهًا لحكمة العقل ونور القلب.
رحم الله الشيخ إبراهيم الذي رحل عنا باكرًا، وكان في أوج عطائه، وأحزننا كثيرًا بغيابه!