قِيل لأمير الكلام أمير المؤمنين علي (ع): صف لنا العاقل فقال: هو الذي يضع الشيءَ مواضعه. فقيل له: صف لنا الجاهل، قال قد فعلتُ (نهح البلاغة) الجاهل بخلاف العاقل؛ بمعنى الذي لا يضع الشيءَ مواضعه.
وأرقى مراتب العقل معرفة الإنسان نفسه. نرى البعض إذا تكلم ونصح وأرشد له لسان من حديد يسيطر بكلامه وأسلوبه على مسامعك ومشاعرك وتصغي له بحضور قلب. ويحار فيه فكرك. إلى أن تقول: ما أخاله إلا نبياً مرسلا. وإذا قَرأ البسطاءُ ما كتبَ يتساءلون. أأُنزلت عليه آيات محكمات؟ يرى في نفسه العجب، وأنه وحيد يراع زمانه ولم يُسبق.
ويخيل إليه من حمقه أن كلماته أنطقت كل أبكم. استعلاء بالنفس. كفاك مذمة ومذلة أيها الجاهل. يُخطئ الجميع مِن عالمٍ ومتكلمٍ وكاتبٍ وإن علا. ولا يقبل من أحد نقداً أو تعليقاً خلاف ما قال وكتب. إنْ خالفه لفظاً ولو وافقه معنىً. على المستمع في نظره والقارئ أن يمجد ويشيد به ويصفق له بأذنيه ويأخذ بكلامه ولا زيادة. أما هو فمن حقه أن ينتقد غيره بكامل ما طرح ولا رأي له وإن كان ما كتب أو قال حقاً وصدقاً. والحال عند الحكماء النقد يُناقش فإن كان بناءً أُخِذ به وإلا بُين للناقد ما خفي عليه من أمره؛ ليستفيد الطرفان منه. هذا جانب وفي جانب آخر أفعاله. لو اطلعت عليها لوليتَ منها فِراراً ولمُلئتَ منها رُعباً.
أفعال مخالفة لأقواله وتتعداها ولا تصدقها حتى تطلع عليها وتراها. إنها أفعال جاهل أو منافق. يتكلم عن الأخلاق ومِن أفعاله بيته جحيم خراب. يوصي بحسن التربية وسوء أعماله ضيعت مَن يُربي. يحث على خدمة المجتمع وخير الناس أنفعهم للناس. وما أصابهم ضير ولحقهم أذى إلا منه. حينها تقنع أن تسمية العقلاء الذين يضعون الشيء في مواضعه لمثله بالجاهل توافق ما وصفه به أمير المؤمنين (ع) لا يملك ثقافة الحوار. ولا أسلوب التعاطي في النقاش. لثقته التامة بعلو مستواه وجهل الآخرين ودونيتهم عنده.
هذا هو الجاهل الحقيقي. لنكن حذرين من مثل هذا ولا نغتر بكلامه وما خطت يمينه أو شماله. طالما خالفتها أفعاله. الرسول الأكرم (ص) مع ثقته بصدق دعوته إلا أنه عندما باهى نصارى نجران أوحى إليه تعالى بقوله: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَٰذِبِينَ} [آل عمران – 61]…
ولم يقل عليهم اللعنة مع علمه المؤكد بكذبهم. وعندما أرسل تعالى موسى وهارون إلى فرعون. قال لهما: {اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ (44)} [سورة طه]؛ لا تعني لعل هنا يمكن أولا يمكن هو الله تعالى أعلم بفرعون إن كان يطيع أو يصر على عناده واستكباره. ولكن يعلمنا الأسلوب الأمثل للتعامل مع الآخرين. أدب الرد على المخالف والاحترام. وإن كان الخصم على باطل. ومقارعة الحجة بالحجة ولكن بالتي هي أحسن…