تحدثنا في مقالة سابقة تحت عنوان {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ} عن مسيرة الأفراد والمجتمعات والشركات إلى الكمال (كفاءة ومثابرة واستقامة ولذة الفريق). وعرّفنا الكفاءة بالعلم والثقافة والخبرة والهواية والمهارات كالخطابة والكتابة، فهي تشمل الجانب الفكري والفني في حياة الإنسان. وسينصب حديثنا هنا عن العلم.
يذكر أن حكيماً جمع أولاده الثلاثة وأراد أن يعلمهم درساً عملياً فأخبرهم أنه قرّر أن يقسِم بينهم ثلاثة أشياء ثمينة ألا وهي: المال والجاه والعلم. وطلب أن يختار كل واحد منهم ما يشاء، فاختار الأكبر الجاه واختار الأوسط العلم واختار الأصغر المال، فأعطى كل واحد منهم ما أراد. سمع أهل المدينة بما حدث فأنقسموا بين مؤيد للمال وآخر للجاه وآخر للعلم. واشتدّ النزاع بين الناس فجاءوا ليسألوا الحكيم عن رأيه. أخبرهم الحكيم أن الجواب سيكون بعد عام كامل.
سافر الأخوة الثلاثة معاً كما أوصاهم والدهم الحكيم، وقد أنفق الابن الأصغر المال واشترى كل ما يحتاج له المسافرون. وبعد مسير عدة أيام، وصلوا إلى المدينة التي أرادها والدهم. دخل الابن الأكبر على شيخ المدينة فحيّاه أكبر تحية، فقد رأى آثار الجاه على محيَاه، وأكرم ضيافته مع أخويه. بقي الأخوة في المدينة عدة أشهر في ضيافة الشيخ. وفي أحد الأيام، مرضت ابنة الشيخ مرضاً شديداً فارتفعت حرارتها وتغيرت ألوانها وصارت بين الحياة والموت، حتى احتار أطباء المدينة في علاجها. هنا انبرى الأخ الأوسط صاحب العلم وطلب من الشيخ أن يسمح له بعلاج ابنته، فكان ما أراد. فوصف لها وصفة من الأعشاب الطبية، وما إن تناولتها حتى تماثلت إلى الشفاء فعادت لها عافيتها واحتفل أهل المدينة بصحتها.
لتفت شيخ المدينة إلى الأخوة و قال لهم: أحفظوا أخاكم فإنه أوسطكم عمرا، وأنفعكم علما. ودّع الأخوة الثلاثة الشيخ وأهل المدينة وانطلقوا إلى مدينة أخرى كما أوصاهم والدهم.
وصلوا إلى المدينة الأخرى فحيّاهم شيخها وقد رأى مظاهر الوجاهة على صاحب الجاه. استقرّ بهم المقام شهرا في ضيافة الشيخ وهو يفسح لهم المكان ويبسط لهم المقام في سرور وأمان. وذات يوم وبينما هم جلوس، دخل عليهم ثلاثة من القبيلة وقد تطاير الشرر في أعينهم ونزغ الشيطان بينهم وطلبوا من الشيخ أن يحكم في قضيتهم. فسألهم الشيخ عن أمرهم فأخبروه أن لديهم مائة وسبعين بعيرا، لأولهم نصفها، و للثاني ثلثها وللثالث تسعها. وقد احتاروا في قسمتها، فالعدد لا ينقسم والبعير إن قسِم مات.. احتار الشيخ في قضيتهم فالتفت إلى ضيوفه عسى أن يجد الحل عندهم. قال صاحب المال أعطيكم من مالي ما يرضيكم، فأجابوه: لسنا فقراء فقد أغنانا الله من فضله، إنما نريد حل قضيتنا. انبرى الأخ الأوسط صاحب العلم فيهم، وقد تذكّر قضية مثلها، حكم صاحب العلوم الكبرى فيها، فقال أنا أقسِمها بينكم. تعجّب الجميع، وهدأ الصراخ، ومدّ كل واحد عنقه ليسمع الكلام. قال أسمحوا لي أن أضيف من عندي عشرة من الإبل فيصير الجميع مائة وثمانين. سألوه ثم ماذا؟ قال لأولهم: لك نصفها فخذ تسعين، وقال للثاني: لك ثلثها فخذ ستين، وقال للثالث: لك تسعها فخذ عشرين، فيكون ما أخذتم مائة وسبعون، وتبقى لي العشرة التي أعطيتكم إياها. ابتسم الحضور وقال شيخ المدينة للأخوة الثلاثة أحفظوا أخاكم فإنه نور لكم. سافر الأخوة كما أوصاهم أبوهم سفرهم الأخير إلى جزيرة تبعد عنهم مسيرة أربع ساعات بسفينة بخارية.
ركبوا السفينة حتى وصلوا إلى الجزيرة، فاستضافهم شيخها وقد أخذه جاه الأخ الأكبر إعجابًا وسرورًا. بسط لهم الشيخ المكان واستضاف أهل الجزيرة على مائدتهم. كانت الجزيرة جنة خضراء، عمّ أهلها الخير والسرور. تعرّف الأخ الأكبر صاحب الجاه على رجال الجزيرة وشيوخها فقضى الأيام معهم في حبور وسرور. واجتمع الأخ الأصغر صاحب المال مع تجار الجزيرة، فاشترى من أخشابها وثمارها، راجيًا أن يبيعها حين يعود من سفره. أمّا الأخ الأوسط، صاحب العلم، فقد أخذه الإعجاب بالسفينة البخارية فقضى أغلب الوقت في موانئ الجزيرة حيث ترسو السفن يدرس عملها ويفكر في صلاحها وخرابها. وهكذا قضى الأخوة الثلاثة أكثر من شهرين في الجزيرة، وقد فات قرابة عام منذ أن غادروا بلادهم، فقرروا أن يرجعوا إلى أبيهم الحكيم كما أوصاهم. خرج شيوخ الجزيرة ووجهاؤها لوداع الأخ الأكبر صاحب الجاه، وخرج التجار لوداع الأخ الأصغر صاحب المال، أمّا صاحب العلم فقد كان في صحبة أخويه، لم يعرف له أهل الجزيرة فضلاً. ركب الأخوة الثلاثة السفينة وسافر معهم جمع كثير من أهل الجزيرة وسارت بهم السفينة تمرخ بهم البحار. وبعد ساعتين، غابت السفينة عن الأنظار. وفجأةً تعطلت ماكينة السفينة البخارية، فوقفت السفينة وحاول المهندسون إصلاحها دون جدوى. احتار الملاحون وقد تملكهم الخوف والذهول، فقد تضرب العواصف العاتية السفينة خاصة في هذا الزمان والمكان. سلّم أهل السفينة أمرهم للواحد القهّار، ومعهم الأخ الكبير صاحب الجاه والأخ الأصغر صاحب المال خائفين مذعورين. نزل الأخ الأوسط إلى غرفة الماكينة، وقد بدا عليه العلم والوقار. عرفه الملاحون والمهندسون فقد رأوه شهرين كاملين في الميناء يزور سفنهم ويتدبر أمر المكائن، يسأل عن أسرارها ويفكر في علومها. كان الخراب في ترس مكسور وليس لديهم بديل له. طلب منهم أن يحموا له النار، حتى إذا ذاب النحاس والحديد، صبّه في قالب يشبه الترس المكسور. بعد أن تركه يبرد، حدّده وشذّبه وساعده المهندسون فركّبوه وأداروه. أبتسم الملاحون وأبحرت السفينة فهلّل الركاب قائلين: “العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال”، ونادى آخرون: “هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر”.
وصل الأخوة إلى أبيهم الحكيم واجتمع أهل المدينة ليسمعوا رأي الحكيم وأبنائه. التفت الأخوان الأكبر والأصغر إلى أخيهم الأوسط في محضر والدهم الحكيم وأهل المدينة وأخبروا الجميع بما حدث، فالأخ الأوسط قد عالج المريضة، وحلّ المعضلة وأصلح السفينة. فقال الحكيم مسروراً، صدق الله تعالى حيث قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.
إننا في زمن يتنافس فيه البشر على جوائز نوبل وبراءات الاختراع وصناعات التكنولوجيا. وأنا على يقين أن من أبنائنا وبناتنا من هو أهلٌ لذلك. ولنتذكر قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.