بكى رجلٌ في التسعيناتِ من عمره عندما سأله قاضي المحكمة عن سببِ مخالفته قانون السرعة مما استدعى حضوره المحكمة. أجاب الرجلُ: أذهلني ابني الذي كان معي في السيارة قاصدينَ المشفى لعلاجهِ من مرض السرطان. سأله القاضي: كم عمر ابنك؟ أجاب الرجلُ: خمسٌ وستون سنة!
هل تعرف من هو المخلوق الأطول مدةً اعتناءً بصغاره؟ بعضُ الحيوانات تضع وليدها وتتركه لحظةَ الميلادِ يصارع الحياة فريداً، بالطبع أعطاهُ الخالق وسائلَ الحياة لكن أباه وأمه يقولان كفى، صَارِع الحياة وحيداً أيها المخلوق! بعضها تعتني بصغارها لسنواتٍ حتى يستقوى على الأعداءِ والمنافسينَ وبعضها يضع البيضَ ويهرب بعيداً عنه. أنت وأنا نحن من يعتني بصغارهِ من قبلِ أن يفكر في إنشاء أسرةٍ تخصه، يختار الأنثى الأجملَ والأذكى وتختار الأنثى الذكرَ الأقوى والأصلحَ ليكون أباً يعمل ويكدح تحتمي تحت ظلهِ الأسرةُ الجديدة.
في كل حركاتنا ولهثنا وراءَ المالِ والشهرةِ والسعادةِ والله تبقى ماثلةٌ صورةُ ذلك الصغير الذي جئنا به للحياة، لا يكفينا أن نُسَخِّرَ له كلَّ مقدراتنا في حياتنا التي نَحرم أنفسنا منها، بل تصل النوبةُ أن نجمعَ وندخرَ له كل ما نستطيع من المالِ والثروة بعد رحيلنا، ولكن هل يكفي؟ ليس مستبعداً أن أرواحنا تظل تطاردهُ ونحن في القبر، تدمع أعين أرواحنا حينما يعثر وتبتهج حينما تراهُ بخير.
إذاً، ليس مستغرباً أن يأمرنا الخالقُ بأن نعتنيَ لسنواتٍ قليلة بمن لا يَمَلاَّنِ أن يعتنيا بنا لقرونٍ لو طال بهما العمر، الأم والأب. هكذا هي سجيةُ الحياة وطباعها، جيلٌ يفنى ليمد من بَعده بأسبابِ الحياة، أملاً منه أن يترك جيلاً أقوى بعد رحيله من الدنيا. لم يستطع الرجال والنساء أن يخلدوا في الحياة، فاقتضتْ الحياةُ أن يكون لهم أبناء يرونَ فيهم مملكتهم الباقية بعدهم، فلم يترددوا أن يدفعوا ثمنَ الخلودِ من راحتهم وسعادتهم رجاءَ أن يروا شيئاً من ثمار هذا الخلود قبل أن يموتوا.
نُقَبلهم ونَشمهم ثم تفرح قلوبنا بأنهم لنا أجساداً وأرواحاَ، لكن ليس مضموناً أن يتذكروا حينما يكبرون أننا كنا شباباً جميلين معتمدينَ ومتكئينَ على قوانا دون أن نحتاجَ يداً أو كتفاً نستند إليها أو حتى صوتاً يقول: طاب يومك! أنا وأنت نقضي عمرنا إما نزرع أشجارَ الكرمةِ في الحقول أو نزرع الرياحَ التي تحصد العواصف، تطيح بكل آمالنا وتطلعاتنا في من كَبَّرنا وربينَا.
بكل تأكيد لا تطلب زراعة الرياح وحصد العواصف جهداً، لكن بساتين الكرومِ تطلب منا الصبرَ والجلدَ والرعاية، حينها وإن كان مذاق واحدةٍ مرَّاً، سوف تكون من بقي منها حلوة المذاق.