العمر لن ولم يكن يومًا عائقًا للرقي بالنفس وتطويرها حتى لو كان بعض البشر يضعون حدودًا لبعض الأعمار فلا يحق للصغير تجاوز عمره وتمكينه من مكان للكبار حتى كان مؤهلًا له!
أو بالعكس ليس للكبير أن يعوض أيام شبابه بالعلم فشروط الالتحاق يقيدها العمر الذي لا يعترف بحديث الرسول الأعظم (ص): «اطلب العلم من المهد إلى اللحد».
وكأنه يعلم بما يعترض طلب العلم ليؤكد عليه حين يقول:
«اطلبوا العلم ولو بخوض اللجج وشق المهج».
فلندع العلم جانبًا ولنأتي للعمل في زمننا الذي يضعك بين حدين لا قبول فيه للوسط بينهما إلا بحرف الواو للواسطة الذي لا يتوفر لدى الجميع حيث يسبق كفاءتك قبل أن يعطفها، فإما أن تكون خريجًا جديدًا أو خبيرًا قديمًا وإلا انتظر لطلوع فجر حظك.
لكن نحن لن ننتظر ففجر البث الحسيني قد طلع ليستعد لعرض اليوم السادس من محرم.
مكان العرض في بيت من بيوتات المدينة تشهد ولادة مولود اسمه عبدالمطلب ولد وفي رأسه شيبة فقيل له: شيبة الحمد – رجاء أن يكبر ويشيخ ويكثر حمد الناس له ـ وقد حقّق الله ذلك، فكثر حمدهم له؛ «لأنّه كان مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأُمور، فكان شريف قريش وسيّدها كمالاً وفعالاً من غير مدافع.
شيبة الحمد جد النبي الأعظم (ص) ومن تولى إيواءه بعد وفاة والده بمشهد ختامي لأيام حياته يبعث لابنه أبي طالب والنبي على صدره وهو في غمار الموت يبكي ويوصي ابنه بوصية خاصة ويقول له: يا أبا طالب، انظُرْ أن تكون حافظاً لهذا الوحيدِ الذي لم يَشمَّ رائحةَ أبيه، ولم يَذُق شفقة أُمّه. انظُر يا أبا طالب أن يكون من جسدك بمنزلة كَبِدك، فإنّي تركتُ بَنيَّ كلَّهم وأوصيتُك به؛ لأنّك مِن أُمّ أبيه. يا أبا طالب، إن أدركتَ أيّامه فاعلَمْ أنّي كنتُ مِن أبصر الناس به وأعلَمِ الناس به، فإن استطعتَ أن تتبعه فافعل، وانصُرْه بلسانك ويدك ومالك؛ فإنّه ـ واللهِ ـ سيسودُكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي يا أبا طالب، ما أعلم أحداً من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه، ولا أُمّه على حال أُمّه، فاحفَظْه لوحدته، هل قَبِلتَ وصيّتي؟
قال أبو طالب: نَعَم قد قبِلتُ واللهُ عَلَيَّ بذلك شهيد، فقال عبدالمطّلب: فَمُدَّ يدَك إليّ. فمدّ يده، فضرب بيده إلى يده، ثمّ قال عبدالمطّلب: الآن خُفِّف علَيَّ الموت.
ثمّ لم يَزَل عبدالمطّلب يُقبّل النبيَّ ويقول له: أشهدُ أنّي لم أُقبّل أحداً من وُلدي أطيبَ ريحاً منك، ولا أحسَنَ وجهاً منك. (*)
ورحل عبد المطلب وعينه تتأمل اللحاق بزمن النبي الأعظم (ص) الذي رباه بحجره وها هو يفارقه وهو ابن ثماني سنين ويتركه بعهدة ابنه أبي طالب الذي ضرب مثالًا رائعًا للكفالة، حاز فيها وسام النصرة التي كانت بطلة العرض حيث عُزفت بسنة فقدها سيمفونية الأحزان لدي النبي العدنان.
لا أعلم لِما تغير العرض لينتقل لمجاهد أشوس شارك في جميع حروب الأمير ابن أبي طالب وفي آخرها كان يندب حظه ويكفكف دمعه حيث لم ينل الشهادة تحت يديّ أميره، لتأتيه يد الأمير الحنون لتمسح دمعه وتبشره بأنه سينال الشهادة بمن الشهادة تحت يديه أفضل من الشهادة بين يديه هو.
ويمضي الزمن ويشيب الرأس ببياضه انتظارًٍا ليوم النصرة لتقر أخيرًا بمرأى رسالة الدعوة التي كانت مفتاح تحقق البشارة الموعودة.
ولم تكن الرسالة موجهة له فقط وهو الفقيه العالم المجاهد فقد كان تأثير هالة النور من الرسالة ساحرًا لينجذب له حتى العبيد الذين كانت النصرة لهم بمثابة الثوب الذي يكسوهم بعبق الحرية.
وبمشهد آخر تصوّر بأرض الكرب والبلاء توزعت الأسماء التي ستمسك برايات النصر الحسيني الخالد بمعركة الخلود بين الحق والباطل وبقيت راية واحدة أشرأبت الأعناق لنيلها، ولا يعلم أحد أنها من زمن الأمير كانت مخصوصة ومحجوزة لجندي خبير لديه له مكانه ها هنا في كربلاء حيث يقيد أسماء الزائرين.
وكأن الزمن يعود ليسمع وصايا النصرة فها هو مسلم ابن عوسجة بآخر رمق من حياته يهمس لشيبة النصر حبيب: أوصيك بالغريب انصره يا حبيب.
ولا أعلم هل رأيتم يومًا كيف لكبار السن من قوة لا تعجزها أعتى التجاعيد التي ارتسمت بملامحهم النيّرة.
فقط أعلم أن النصرة مثل طلب العلم لا تتقيد بعمر أو زمن فمتى ما جاء وقتها ارفع الراية وقاتل حتى لو كنت بسنواتك الأولى أو الأخيرة وبالطبع حتى لو كنت بالوسط لأن الواسطة الحسينية ستكون بجانبك حتمًا.
(*) كمال الدين 172 / ح 29 ـ عنه: بحار الأنوار 143:15 ـ 144 / ح 74