يا نفسُ من بعدِ الحسين هوني

عبارةٌ تخزنت في ذاكرتي منذ الطفولة وما أقوى تأثيرها على نفسي إلى هذا اليوم، ففي كل مرةٍ أسمعها تهتزُّ مشاعري وأظلُّ حائرةً أمام عظمة العباس (ع) وقوته وإيثاره، وكيف أن العباس (ع) لم يشرب الماء بالرغم من أنه قد وصل إليه واغترف غرفةً بيده ولكنه رماه وتحسر على أخيه الحسين (ع) وقال:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني هذا حسينٌ واردُ المَنونِ وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ
تاللهِ ما هذا فِعالُ دِيني ولا فِعَالُ صَادِقِ اليقينِ
شلون اشرب واخوي حسين عطشان وسكنة والحرم وأطفال رضعان واظن گلب العليل التهب نيران يريت الماي بعده لا حلى أو مر

ويُذكر من أشهر مواقفه (ع) في كربلاء حينما أخذ عبد الله بن حزام ابن خال العباس (ع) أماناً من ابن زياد للعباس (ع) وإخوته من أمه قال العباس (ع) وإخوته: لا حاجة لنا في الأمان، أمان الله خير من أمان ابن سمية.

العباس (ع) ويُعرف بقمر بني هاشم، لم يكن بطلاً فحسب وإنما كان عالماً فاهماً لشرع الله وسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وروي كذلك أنه لمّا جمع الإمام الحسين (ع) أهل بيته وأصحابه ليلة العاشر من المحرّم وخطبهم فقال في خطبته: «أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يريدون غيري»، فقام إليه العبّاس (ع) فبدأهم فقال: «ولم نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً»، ثمّ تكلّم أهل بيته وأصحابه بمثل هذا ونحوه.

وروي أنه في أيام عاشوراء تمكّن العباس (ع) من جلب الماء إلى الحسين (ع) في المحاولة الأولى عندما اشتد به العطش وأهل بيته (ع) فلقّب بالسقّاء، واستشهد في طريق عودته من المحاولة الثانية بعد أن قطعت يداه وأصيبت عينه بسهم وضرب بعمودٍ على رأسه وأريق ماء القربة، وبعدها جاء الحسين (ع) ووقف عند رأس أخيه وقال «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوي»، وحاول حمله إلى الخيام إلا أن العباس رفض لأنه يستحي من الأطفال ومن سكينة بنت الإمام الحسين (ع)، حيث إنه لم يتمكن من أن يحضر لهم الماء، كما قام بمواساة أخيه الحسين (ع) حيث قال العباس (ع): «أنت تمسح الدم والتراب عني وتواسيني وتنقلني إلى الخيم بعد ساعة وعند سقوطك من سيمسح الدم والتراب عن وجهك»، فبقي الإمام الحسين (ع) ورأس أخيه العباس (ع) في حجره حتى فاضت روحه الطاهرة.

وقد وصف الإمام السجاد عمه العباس (ع) في قوله: «رحم الله عمي العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله عزّ وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كما جعل جعفر بن أبي طالب. وأنَّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة».

وروي عن الإمام جعفر الصادق (ع): «كان عمنا العباس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه السّلام وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً».

كان (ع) رمزاً للعزة والإباء والشرف والكرامة والنخوة والشهامة، ومنه ننهل دروسًا في الوفاء والإخلاص والإيثار، فسلام عليك يا أبا الفضل العبّاس وعلى إخوتك عبد الله وجعفر وعثمان يوم وُلدتم، ويوم استشهدتم مظلومين محتسبين، ويوم تُبعثون أحياءً في جنّة.


error: المحتوي محمي