السر الإلهي

لما الحسين دون ما سواه؟

يا بن النبيّ المصطفى ووصيّهِ، وأخ الزكيِّ أبنُ البتولِ الزاكية
تبكيكَ عيني لا لأجل مثوبةٍ، لكنَما عيني لأجلِك باكية
تبتلُ منكم كربلاء. بدم ٍ ولا، تبتلً مني بالدموع الجارية

لِما خُص الحسين عليه السلام دون سِواه بالبكاء، ولما تجديد الحزن على رجل قُتل من الألف ومئات السنين، أما آن لهذه الدموع أن تقف وتجف؟ وما السر في ذلك؟ من الطبيعي أن يحزن المرء ويتألم لفقد حبيبٍ أو عزيز، ويبكي لمدةٍ من الزمن، ويخف هذا الحزن والألم مع الأيام، رحمةً ورأفةً من الخالق عز وجل.

كما يضع المحبة بين العباد بقدرته وبفقدهم يصعب فراقهم، يلهم الصبر والسلوان والسكينة في قلوب الفاقدين بذات القدرة.

وبفضل ذكر ما جرى من مصائب على آل البيت يكون التصبر أسوة بصبرهم على المحن، الذي جعل محبتهم في القلوب بقدرته، لما لتلك الفاجعة الأليمة وآثارها في النفوس المؤمنة بقضية الحسين عليه السلام ومظلوميته، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، لأن كثرة الجزع والبكاء لموت البشر مكروهة وغير مستحبة من الناحية الإيمانية بالقدر ومشيئة الخالق في عباده، وأن كل حيٍ سالكٌ هذا الطريق.

وأقوال أئمة الهدى الذين أضاءوا لنا الطريق بالكثير من الأحاديث في هذا الجانب الاستكراهي من جانب آخر، “عن جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُولَوَيْهِ فِي الْمَزَارِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجَامُورَانِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِنَّ الْبُكَاءَ والْجَزَعَ مَكْرُوهٌ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ مَا جَزِعَ مَا خَلَا الْبُكَاءَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (ع) فَإِنَّهُ فِيهِ مَأْجُورٌ”.

أما الحسين عليه السلام، فالأمر مختلف ليس فقط من جانب الاستحباب، إنما لمَا للدمعة عليه من أثر نفسي وإيماني وجزائي وحسن الثواب للباكي عليه.

“وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الرَّزَّازِ عَنْ خَالِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ صَالِحِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْمَكْفُوفِ قَالَ قَالَ أَبُوعَبْدِ اللَّهِ (ع) فِي حَدِيثٍ ومَنْ ذُكِرَ الْحُسَيْنُ عِنْدَهُ فَخَرَجَ مِنْ عَيْنِهِ مِنَ الدُّمُوعِ مِقْدَارُ جَنَاحِ ذُبَابٍ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ ولَمْ يَرْضَ لَهُ بِدُونِ الْجَنَّةِ”.

على مر التاريخ الماضي والمعاصر، مرت على الأمم السابقة وإلى عصرنا هذا أحداث وحروب، سببت دماراً وإبادة للشعوب، استُخدِمت فيها أبشع الوسائل الحربية من أسلحة قديمة وحديثة خلفت وراءها آثارًا نفسية وجسدية، نتيجة استخدام أسلحة محرمة دوليًا، كأعداد القتلى في الحرب العالمية الأولى، ودمار هيروشيما، نهاية الحرب العالمية الثانية وآثارها، وغيرها الكثير، ليس هنا محلها، ولكن لا تلبث وتُنسى مع مرور الأيام، وإن ذُكرت يُمر عليها مرور الكرام.

أما واقعة الطف وموقف أبا عبد الله الإبائي، ورسالته السماوية، فلها وقعٌ خاص ليس في نفوس الموالين فقط، وإنما وصلت للعالمية ولمختلف أنواع الطوائف، وتمنوا لو كانوا ببطولة الحسين وإبائه وإيمانه بقضيته وتضحياته، من أجل الدين و المبادئ والقيم.

إن التعاطف مع الحسين وقضيته سر من الأسرار الإلهية، مهما اختلف المختلفون في سرد وقائع ثورته وإحيائها وأسبابها من زيادة أو مغالاة، لا يُختلف في وقوعها وأنها من أقوى الملاحم بطولةً وإيماناً وصبراً، على مر التاريخ.

كنا نسمع من الأسلاف أن البكاء على الحسين ليس بحاجة إلى قراءة ما جرى عليه، فالقلب يخشع لمجرد تخيل الأحداث وكأن الواقعة أمام العين بكل أحداثها، أو بالتجربة فقط اذكر الحسين عليه السلام وكرر “حسين يا حسين”، تنهمر الدموع لمجرد ذكره، لأن حبه في قلوب المؤمنين، أو ليس هذا وعد الله لرسوله عند إخباره بمقتل ريحانته، بأن ينشئ له أُمةً تبكيه وتندبه، وهذا أيضا يعد سراً من الأسرار الإلهية.

وروي أنه لما أخبر النبي ابنته فاطمة بقتل الحسين عليه السلام وما يجري عليه من المحن بكت سلام الله عليها بكاءً شديداً، وقالت: يا أبتِ متى يكون ذلك؟ قال: في زمن خالٍ مني ومنك ومن علي، فاشتد بكاؤها وقالت: يا أبتِ فمن يبكي عليه؟ ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟ فقال النبي: يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي، ورجالهم يبكون على رجال أهل بيتي ويجددون العزاء جيلاً بعد جيل في كل سنة، فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنتِ للنساء، وأنا أشفع للرجال، وكل من بكى منهم على مصاب الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة، يا فاطمة، كل عين باكية يوم القيامة إلا عين بكت على مصاب الحسين فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة، “بحار الأنوار، ج 22، ص 292”.

إن ما أقدم عليه قتلة الحسين (ع) من جرم في حق آل الرسول، تلك الفئة التي تجردت من كل معاني الإنسانية والأحاسيس البشرية، وأصبحت أقل ما توصف به أنها هياكل عظمية متحركة لا ضمائر ولا قلوب لها، أو كأنها دمى تحركها خيوط الحقد والحسد على صفوة اختارها الله ليكونوا سادة خلقه، هداة إلى سبيله، يأمرون بأوامره، وينهون عن نواهيه، ليفعلوا بهم تلك الفعلة الشنيعة من قتل وقطع للرؤوس ولم يكتفوا بذلك، بل خرقوا الجثث الطواهر بالرماح وداسوها بالخيول من غير جرم فعلوه سوى المرتبة الرفيعة التي رتبهم الله فيها.

وسوف تظل حرارة نيران مصاب شهداء طف كربلاء متأججة، والبكاء والحزن لما جرى عليه جمرة تتوقد في القلوب المؤمنة أبد الدهر لا تنطفئ، لأن حبه يجري في الدماء جيلًا بعد جيل، الواقعة التي أحرقت قلب الرسول فكيف بمحبي آل بيته.

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين، أبداً ما بقينا وبقي الليل والنهار.


error: المحتوي محمي