ثقافتان

سهرت البارحة حتى وقت متأخر من الليل وأنا أتخيل حوارًا بين الثقافة الإسلامية والثقافة الغربية حول مفهوم الجمال. طلبت من المتحاورتين تعريفًا للجمال نتفق عليه كبداية للحوار بعد أن تعهدت لهما بالحياد التام، فاتفقتا أن الجمال هو الحسن وهو عكس القبح، وهو بلوغ الشيء كمالًا يجذب انتباه الآخرين ويحقق لهم الرضا والسرور.

وهو قسمان جمال حسي تلتذ به الجوارح كالنظر والسمع والذوق، وقد يختلف الناس فيه فما هو جميل لدى زيد قد لا يكون جميلًا لدى عمرو، وجمال معنوي تلتذ به الروح كالمعنى والفكر والإنجاز والأخلاق ويتفق على جماله كل البشر لكن بنسب مختلفة.

اتفقت معهما على أن نطلق على الثقافة الإسلامية الرمز (أ) وعلى الثقافة الغربية الرمز (ب) ليسهل تدوين الحوار.

بدأت (أ) فقالت: الجمال سحر يتجلى في الخلق بصور عديدة وبنسب مختلفة، فكل مخلوق أحسن الله خلقه وجعله في أبدع صورة يمكن أن يكون فيها. وغاية الجمال هي جمال الخالق فهو كمال العلم والقدرة والرحمة والرأفة وكل صفات الكمال، فقد ورد: “اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله وكل جمالك جميل، اللهم إني أسألك بجمالك كله”، أما الخلق فكل يغرف من جمال الخالق بقدر سعته وطاقته، وكلما ترقى الإنسان في عالم الكمال كلما اقترب من جمال الخالق اللامتناهي.

نعم قد يتبادر إلى الذهن جمال الشكل والمظهر وهذا واضح لا شك فيه، غير أن هناك الكثير من أشكال الجمال فمثلًا:

جمال البيان في قوله تعالى: {الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان}، جمال المبنى أشترك مع جمال المعنى فهزّ المشاعر وأطرب النفوس.

جمال الأخلاق في قوله تعالى: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}، فتلك قمة العطاء والإيثار.

جمال القصة: {نحن نقص عليك أحسن القصص}، كقصة يوسف وموسى وغيرهما.

جمال الذكرى: الملاحم التاريخية التي مضى عليها حوالي ألف وأربعمائة عام، ومع ذلك فهي تتجدد عامًا بعد عام.

قالت (ب): أضيف إلى ما ذكرتِ أن تاريخ الغرب مليء بأشكال الفن الجمالي كالنحت والرواية والرسم. وقديمًا عرف الإنسان النسبة الذهبية في الرياضيات والتي تتحقق عندما يكون “مجموع عددين مقسوم على أكبرهما يساوي النسبة بين أكبر العددين إلى أصغرهما”، وهو عبارة عن ثابت رياضي تبلغ قيمته 1.618 تقريبًا، وهذه النسبة تضفي جمالًا خاصًا على المستطيلات المختلفة، فمثلًا إذا كان طول المستطيل يساوي عرضه مضروبًا في 1.618 سيكون شكله أجمل من مستطيل طوله مثلًا يساوي عشرة أضعاف عرضه، وتجد هذه النسبة تطبيقاتها في أشكال المخلوقات كالإنسان والنباتات.

قالت (أ): الجمال الحسي يحتاج إلى الجمال المعنوي: الجمال الحسي حقيقة يعبر عنها القرآن، فمثلًا قال عن النسوة اللواتي رأين يوسف عليه السلام: {فلما رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}.

وكذلك الجمال المعنوي، فقد قال القرآن عن رد يوسف عليه السلام على إغراء الجمال: {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه}.

وكذلك ورد الجمال الحسي في سورة الرحمن عن جزاء المؤمنين في نعيم الجنة: {فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، كأنهن الياقوت والمرجان، فبأي آلاء ربكما تكذبان}، وذكر بعده مباشرة الجمال المعنوي في الآية التي تليها: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.

فالجمال الحسي مارد قوي قد يستثير الغريزة، ولذا ورد في القرآن كحماية ووقاية من هذا المارد قوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم}، وقال تعالى: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}، فالجمال الحسي يحتاج أن يلجمه الجمال المعنوي كالعفة والشرف ليحقق الرضا الحقيقي والسرور الدائم.

قالت (ب): نحن لا ننكر أن الجمال المعنوي جميل، فمثلًا نحب القيم كالإخلاص في العمل وخدمة الآخرين ومساعدة المساكين والإنجاز وتحقيق الذات، وتاريخ الحضارة الغربية وإنجازاتها خير دليل على ذلك، غير أننا نؤمن بحرية الفرد في التصرف، فنطلق العنان للفرد أن يمارس حريته في التعبير عن جماله وفي التأثر بجمال الآخرين.

قالت (أ): الحرية جمال يحتاج إلى كمال، وجمالها أن يتحرر الفرد من قيود الشهوة والإغراء، وهذا لا يتم في أجواء التبرج والانحلال، لذا لابد أن نضع للحرية إطارًا وقانونًا يحفظ الأسرة والفرد من اللهث وراء السراب، وهكذا صنع الغرب في منع التحرش فلا مانع إذن من إضافة قوانين أخرى تعالج الخلل الأسري والاجتماعي الذي برز للعيان.

قالت (ب): دعي نقاش الحرية فذلك يطول، ولنناقش كيف نستخدم الجمال لتحقيق المنفعة واللذة؟ ثقافتكم تكثر الحديث عن المعنويات، ونحن نريد في هذه الدنيا أن يحقق الجمال قيمة نفعية ومصلحة مادية سريعة. لقد استفدنا في الغرب من الجمال واللذة المتوهجة في الدعاية والاستهلاك، فمثلًا يعرض المشاهير وملكات الجمال الأزياء والموضات ويبرزون مفاتنهم في الأفلام والمسلسلات.

قالت (أ): قد يحقق هذا النفع المادي ولكن على حساب السعادة والحياة الاجتماعية، فإذا أعطينا العين والجوارح لذة الجمال ونسينا القيم والأخلاق، فستنحرف مسيرة الإنسان إلى الجسد والماديات على حساب الروح والمعنويات وهذا لا يحقق السعادة المنشودة.

سألت (ب): ولماذا لا تتحقق السعادة؟

أجابت (أ): سعادة الإنسان لها جانبان حسي ومعنوي، ولابد من التوازن بينهما ليرتقي الإنسان في سلم الوجود.

سألت (ب): كيف يرتقي في سلم الوجود؟

أجابت (أ): كما يحتاج الإنسان إلى لذة البصر فهو يحتاج إلى لذة البصيرة لتوصله إلى الخالق، إن لذة البصيرة دائمة متواصلة لا تنطفئ أبدًا، بينما لذة البصر تشتعل وتموت بسرعة، فلذة البصر بالجمال الحسي يموت مع الوصال لذا يبقى الإنسان متعطشًا لألف جمال وجمال، وقديمًا قيل: “الوصال مقبرة العشق الحسي”.

أما لذة البصيرة بالجمال المعنوي فتتوهج مع الوصال وتزداد شوقًا وحرارة، وقد ورد: “أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك”، “ماذا وجد من فقدك، وما الذي فقد من وجدك”، “عميت عين لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبًا”.

قالت (ب): نحن في الغرب نؤمن كثيرًا بالحياة المادية ونرى أن أروع الجمال وأقربه للنفس هو جمال الشكل والمظهر وبه يتم الجذب والتأثير، وسحر الفوتوشوب وجمال الصورة أقوى تأثيرًا من ألف كتاب وخطاب.

قالت (أ): جمال الشكل والمظهر قناع قد يخفي قلبًا صافيًا يحلق في السماء، وقد يخفي وحشًا كاسرًا ينهش في الأحياء.

قالت (ب): تغير الغرب كثيرًا منذ الحرب العالمية الثانية وأصبح التركيز على جمال الشكل، ويبدو أن الموجة العاتية بدأت تضرب سواحلكم، فعمليات التجميل من توسيع العيون وتكبير الشفاه و…و…. تستهلك أموالكم وتغري أجيالكم الشابة رغم أضرارها الصحية والمادية.

تنهدت (أ) وقالت بحرارة: نعم، وقد تكون سببًا في كثرة الطلاق والفراق، فالجمال الحسي يفقد بريقه بعد الوصال، والاهتمام بالشكل دون المعنى يفقد الحياة الأسرية الاستقرار ومقاومة الصعاب.

قالت (ب): انتظري الكثير مستقبلًا، فالهندسة الثقافية تنحت فيكم جيلًا بعد جيل.

سألت (أ) وقالت: وما هي أدواتكم وأساليبكم في الهندسة الثقافية؟

قلت لهما بابتسام: لقد طال المقام وبلغنا المرام فلنكمل الحوار عن الهندسة الثقافية وعن مفاهيم أخرى كالرحمة في ليلة أخرى، أما الآن فدعونا نختم الكلام بذكر خير الأنام.


error: المحتوي محمي