اشترى رجلٌ سيارةً غاليةَ الثمن وفي أحدِ الأيامِ الممطرة اضطر لركوبِ الحافلةِ وتَرَكَ السيارة في المنزل. أغرت السيارةُ المطرزة والمؤثثة بأفخرِ التقنيات زوجةَ الرجل أن تزورَ صديقتها التي لا تبعد كثيراً عنها، فرصةٌ لرؤيةِ صديقتها والتباهي بالسيارة الجديدة. اشتد المطرُ أثناء قيادتها للسيارة مما جعل الطريقَ زلقةً فاصطدمتْ بحائطٍ أحدث ضرراً لا يخفى في مقدمةِ السيارة. ضجرت المرأةُ كثيراً وأصبحت تفكر في ضررِ السيارة الذي ربما يكون القشةَ التي يحتاجها الرجلُ ليقصمَ ظهر بعيرِ العلاقةِ المحمَّل بأثقلِ الأحمال.
قصدت المرأةُ أحدَ السمكريين المهرة كي يساعدها في إصلاحِ السيارة، فلما وصلت سألتهُ: هل تستطيع إصلاحَ السيارة؟ أجاب السمكري: نعم، بكل تأكيد سيدتي. وهل تستطيع أن تصلحها قبل أن يعودَ زوجي من العملِ في الساعةِ الخامسة مساءً؟ نعم، قال الرجل بكل ثقة. إذاً أَصلحها طلبت المرأة. جاء الرجلُ بحديدةٍ ووضعها خلفَ المكان المعطوب وطرقَ عليها، دقائقَ قليلة وعادت السيارةُ كما كانت. تنفستُ المرأةُ الصعداء، أعجبها العمل فسألت السمكري كم الكلفة؟ أجاب السمكري: ألفَ ريال. ألفَ ريال رددت المرأةُ باستغراب! ولمَ هذا الجشع سألتْ؟ أجابَ السمكري: سيدتي أنا أخذتُ خمسينَ ريالاً أجرةَ العمل وتسعمائة وخمسون مقابلَ معرفتي أين أضع المطرقة.
في عبابِ بحار ومحيطات المعارف لابد لنا من أخشابٍ نطفو فوقها ولا نغرق فيها، فلا أثمنَ من قطعِ الأخشاب الطافية ما دمنا لا نعرف كيف نصنع السفن التي نبحرُ فيها دون أن نغرق. تأتينا المعارفُ كل يوم بعضها يُورق المالَ والذهب، لكن أجملها تلك التي تُورق القيم وتصنع منا بشراً من أكرم ما خلق الله من كائنات، لكننا لا نهتم بها أو بما تورق!
كان خراشٌ صيادَ ظباءٍ ماهر، خرج يوماً للصيد، فرأى ظباءً كثيرة اجتمعت عند الماء. أذهلت كثرةُ الظباءِ خراشاً فكلما أرادَ أن يصطادَ واحدةً رأى أخرى أسمنَ منها، ثم ثالثةً أسمن، وهكذا قضى خراشٌ يومه لم يصطدْ ظبياً واحداً، فرت كلها وتفرقت من بين يديه حتى قيل فيه:
تكاثرت الظباءُ على خراشٍ
فما يدري خراشٌ ما يصيد.
لو كنا خراشاً وكانت المعارفُ غزلاناً وظباءً فبكل تأكيدٍ هناك الكثير منها، ولكننا سوف نصطاد أقل مما نستطيع أن نصطاد. تأتينا نوادر المعرفةِ من كل جهة، فحين نسمعها نطرب ونقول: الله ما أجملها! ولكنها لا تلبث أن تفرَّ من أيدينا أسرعَ من الظباءِ الشاردة. كلنا نطرب لمناظرِ الرقي والانتظام، وقليلٌ منا يتبناها، يتيمةً تبقى القيمُ البسيطة في مجتمعاتنا، ويتبناها غيرنا من المجتمعات!
لا أثمنَ من ألواح المعرفة التي تنقذ البشر من الغرقِ في بحارِ الحياة، لكن من ينقذ البشرَ إذا كانوا هم “بذواتهم” قطع الأخشاب الطافية في المحيطات، يتقاذفها الموج من كل جانب، دون أن تستطيع أن تنقذ نفسها وتخرجَ نحو الأرض اليَبَس! هناك الكثيرون منا يملكون الكثير من أدواتِ المعارف تبقى حبيسةَ الفكر دون أن يطرقونَ بها في المكانِ الصحيح لتصير ذهباً ومالاً وقيماً ثمينة ونفيسة…