ثمة جدل متكرر تعيشه الساحة الشيعية كل عام في أيام ذكرى استشهاد السبط الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام)، هذا الجدل يتعلق بالخطاب الذي يُطرح في هذه المناسبة الأليمة، مفاده: هل يجب الاقتصار على ذكر خصوص المصاب المفجع الذي وقع على الحسين وأهل بيته وصحبه، أم ينطلق منه لما هو أبعد من ذلك؟
ويبدو أن هناك اتجاهات ثلاثة:
الاتجاه الأول يركز على خصوص ما حدث في كربلاء، فيتناوله شعرًا ونثرًا ووصفًا، ولا يمنع من أن يوسِّع الدائرة ليحلِّل أحداث تلك المعركة الدامية وما سبقها وما لحقها، وهو يأخذ بالمنهج التاريخي وصفًا وتحليلًا، بقصد أم من دون قصد.
ويؤصل هذا الاتجاه مسعاه بسيل كبير من الروايات التي تتحدث عن ضرورة البكاء والإبكاء والتباكي على الحسين (عليه السلام)، ولسنا بحاجة إلى سرد هذه الروايات فهي ماثلة في أذهان الموالين، ويكفينا في ذلك مروية الإمام الرضا (عليه السلام) لابن شبيب الشهيرة، ومما جاء فيها: ” يا بن شبيب، إن كنت باكيًا لشيء فابكِ للحسين بن علي (عليهما السلام) فإنه ذُبح كما يُذبح الكبش، وقُتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلًا ما لهم في الأرض شبيهون، ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله … إلى أن قال: يا بن شبيب، إن بكيتَ على الحسين عليه السلام حتى تصير دموعُك على خديك غفر اللهُ لك كل ذنب أذنبتَه صغيرًا كان أو كبيرًا قليلًا كان أو كثيرًا…” – الوسائل، العاملي، 14 / 502.
وفي لسان الروايات عناوين أخرى تنبثق من عنوان “الحزن” منها: الجزع والعويل وذكره (صلوات الله عليه) عند شرب الماء ولعن قاتليه:
عن الصادق (عليه السلام) : “كلُّ الجزع والبكاء مكروهٌ سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام)”. – الأمالي، الطوسي ص 162.
وفي دعاء الصادق (عليه السلام): “وارحم الصرخةَ التي كانت لنا” – الكافي، الكليني 4/ 583.
وعن داوود الرقي قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذا استسقى الماء؛ فلما شربه رأيتَه قد استعبر واغرورقتْ عيناه بدموعه، ثم قال لي: يا داوود لعنَ اللهُ قاتلَ الحسين عليه السلام فما أنغص ذكر الحسين عليه السلام للعيش! إني ما شربت ماءً باردًا إلا ذكرت الحسين عليه السلام” – الوسائل، العاملي 25/ 272.
ولا شك أن هذا هو الجانب الأساس في القضية الحسينية، فما يُنشر من هنا وهناك أن الحسين ليس للبكاء ولا التباكي ونحوهما هو خلاف النصوص الصريحة الواردة عنهم (عليهم السلام). إن مجرد وجود حالة الحزن وما يتبعها من آثار هي حالة إيجابية، ولا شك أن من تمامها أن يكون لها انعكاس على المعرفة والسلوك: معرفة مقام الإمامة وسلوك طريقه في اتباع الحق ونصرة المظلوم.
وهذا الاتجاه لا يحتاج إلا إلى خطيب حَسَن الصوت يقرأ المراثي بصورة شجية مفجعة. عن أبي هارون المكفوف قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا هارون أنشدني في الحسين عليه السلام فأنشدته، فقال: أنشدني كما تنشدون (يعني بالرقة)، قال: فأنشدته:
امرر على جدث الحسين
فقل لأعظمه الزكية
قال: فبكى ثم قال: زدني؛ فأنشدته القصيدة الأخرى قال: فبكى، فسمعت بكاءً من خلف الستر، فلما فرغت قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرًا فبكى وأبكى خمسة كتبت لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرا فبكى وأبكى واحدًا كتبت لهما الجنة، ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينه من الدمع مقدار جناح الذباب كان ثوابه على الله ولم يرضَ له بدون الجنة” – الوسائل، العاملي 14/ 595.
وقد دأبت المنطقة منذ عشرات بل مئات السنوات على تصدُّر قرَّاء المراثي بأصواتهم الحزينة للمجالس من دون نكير من أهل العلم والعلماء، بل كانوا يحظون بمكانة رفيعة وإجلال كبير، وكل واحد منا يحفظ في ذاكرته أسماءً لامعة في هذا المضمار؛ ولذا فإن الحملات التي يشنها بعض المتصدين على خدمة المنبر في أيامنا هذه لا مبرر لها. نعم إن على الخطباء الكرام أن لا يخوضوا في معارف لا حظَّ لهم فيها ولا باع، ويقتصر أداؤهم على ما يتقنون. عن الإمام الرضا (عليه السلام) حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): قيمة كل امرئ ما يحسنه” – عيون أخبار الرضا، الصدوق 1/ 58.
الاتجاه الثاني، يوسِّع الدائرة ليشمل خطابه المعارف والعلوم الإسلامية، مثل التفسير والحديث والعقيدة والفقه…، فهو لا يكتفي بذكر المصاب، ويرى أن هذا من صميم مسؤوليته الشرعية في الدعوة إلى الله وتعليم أصول العقيدة وبيان الأحكام الشرعية، وهي واجبة شرعًا أو مستحبة في الحد الأدنى.
وينطلق هذا الاتجاه من أحاديث “أحيوا أمرنا” المتعددة، فإن أمرهم (عليهم السلام) ليس أمرًا شخصيًا محضًا، بل هو الدين بأصوله وفروعه وجميع أبعاده. عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: رحم الله عبدًا أحيا أمرنا، فقلت له: وكيف يُحيى أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا” – عيون أخبار الرضا، الصدوق 2/ 275.
ويعدُّ موسم عاشوراء موسمًا خصبًا للدعوة والوعظ؛ فالعاطفة متوهجة والأذهان مستعدة والأرض خصبة. إن الخطيب قد لا يجد فرصة في التأثير الإيجابي في معارف الناس وسلوكهم نحو الدين أفضل من موسم عاشوراء، وهو بذلك يأخذ بالاتجاه الأول ويوسع دائرته.
الاتجاه الثالث، يوسِّع دائرة خطابه لتشمل العلوم بمختلف فروعها، فيدخل في الفلسفة، ومنها إلى علم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتربية، بل قد يتعدى ذلك إلى الحديث في القضايا الطبية، فتجد هذا الخطيب وقد تقمَّص دور الاختصاصيين في هذه العلوم وأمثالها؛ فيشرِّق ويغرِّب بلا حدود، وقد “يهرف بما لا يعرف”، مما يقلل من قيمة طرحه.
إن هذا العصر عصر التخصص، والخطيب (ورجل الدين) تخصصه في العلوم الإسلامية بالدرجة الأولى؛ فلِمَ الدخول فيما لا يعنيه؟ إن هذا يثير استهجان الاختصاصيين من الذين يجلسون تحت منبره رغبةً في إحياء ذكرى الحسين، وربما يصل الأمر إلى التندر والفكاهة إذا خاض في عمق النظريات وأخذ يشبعها تحليلًا وبحثًا من دون دراية كافية ولا اطلاع واسع. بعض العناوين المطروحة في هذا الموسم من قبيل: سوسيولوجيا التربية والتسلط الأسري، والاضطرابات النفسية وانعكاساتها على الأسرة والمجتمع، بحاجة إلى عالم/ اختصاصي في علم الاجتماع وفي علم النفس، حتى يعطي هذين العنوانين حقهما من البحث، فإذا ما خاض غير الاختصاصي فيهما فقد يأتي بالعجائب !
وهبَّ أن هذا الخطيب أو ذاك من الاختصاصيين والباحثين (وهم قلة)، فلنا أن نتساءل هنا: ما الداعي لطرح أبحاث هي بعيدة كل البعد عن أجواء المناسبة الحزينة؟
وهل يصدق عليها الإحياء وما يرتبط بها من عناوين البكاء والحزن والجزع …؟!
إن “وقفة مع مشروع محمد أركون” ليس وقته أيام عاشوراء. يمكن تناوله في زمن آخر، وضمن حضور نخبوي في ندوة أو محاضرة أو غير ذلك.
وربما كان الدافع هو استغلال الحضور الجماهيري الكبير في هذه الحصة الزمنية التي لا تتكرر في غيرها من أزمان.
وكلمة أخيرة، إن الحسين هو بوصلة هذه المناسبة الحزينة، ومن يعاكسها ويسير باتجاه بوصلة أخرى فقد أضاع الطريق.