من خلال تتبعي الدقيق لآراء الناس، ووجهات نظرهم في مقالات الآخرين، أو خطبهم، أو أشعارهم وجدت أن الكثير يرتكز على عنصر واحد من عناصر النقد، ويمزجه بعلاقته الشخصية بالكاتب، أو بأمنية يعيشها تجاهه ليخرج بالصورة النقدية في نهاية المطاف سواء بالإيجاب أو السلب.
وبمعنى أدق حين أتفق مع الكاتب في الفكرة مثلًا، وتميل مشاعري نحوه؛ أعتبره هرم المجد في مجاله، والعكس صحيح.
وعليه؛ فإن جل ما يمارسه الناس هو انطباعات ذاتية أكثر منها عناصر نقدية إلا ما ندر.
النقد يحتاج لأدواته من دراسة واستقصاء دقيق وموضوعي للأفكار، والعاطفة، والخيال، والإيقاع، واللغة، والأسلوب، والمجال، فضلًا عن التغلغل في أعماق الكاتب أو الشاعر وقراءة نفسيته بتجرد لمعرفة أهدافه الفعلية الداخلية، وهذا أمرٌ يسير لمن تعلم أصوله ومبانيه، وممكن لمن رغب في تعلمه أو وجد في نفسه بعض ملكاته، وعسير على من غلبه هواه، أو كان فاقدًا للموضوعية أو المصداقية.
ومن خلال استقصائي ومتابعتي للبعض أراهم يهرفون بما لا يعرفون؛ فيؤلهون قومًا لم يبلغوا من المجد سلمة، ويسقطون قومًا استحقوا القمة، وتركوا قومًا هم سلاطين الفن والشعر والأدب.
ورأيت من يطبلون لكل أحد دون استثناء، سواء أكان ما كتبه جميلًا أم قبيحًا عند النقاد الفعليين، المهم أن يتركوا بصماتهم التعزيزية في قلوب الآخرين.
ورأيت من لا يملك من عناصر الحس النقدي قطرة من بحر، ويُسقط كُتّابًا أو شعراء أو مبدعين لو وضعوا حرفًا واحدًا من كلماتهم في كفة وهذا الناقد البسيط في كفة لفاق حرفهم كفته بما فيه من خير وشر.
البعض يمارسون نقدًا هدامًا مقيتًا سلبيًا يقتل الورود في مهدها، ويقتلع الأشجار من جذورها أو يقطع أغصانها.
هؤلاء القتلة للفن والإبداع يستحقون المحاكمة الأدبية أو الفنية ليتعلموا أنهم مذنبون ومجرمون ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا.
صحيح أن الانطباعات جزء من النقد، ولكن إذا وجهت بوصلتها نحو العناصر النقدية الأخرى، وتجردت بقدر معقول من الشخصنة والذاتية.
النقد أن تبين عناصر الجمال والقبح في النص الأدبي أو الخطبة أو سواها بموضوعية مجردة ما أمكن، متغلغلًا في عناصر النقد لكل مجال تود نقده، متأملًا في الفكرة ونشأتها وعصرها ودوافعها وآثارها، دارسًا العاطفة بدقة أهي صادقة؟ أم كاذبة؟ أم وصولية؟ وسواها.
الإيقاع أو الموسيقى الشعرية أو النثرية تلعب دورها في تحسين أو تقبيح النصوص مدار البحث، فضلًا عن الخيال والصور الفنية البلاغية التي تعتبر العنصر الأقوى للتمييز بين المبدعين حقًا، لأن الصور تحكي جماليات النص، ومدى قدرة الكاتب على رسم كلماته للخروج بلوحة فنية جمعت أجزاءها ولونتها الحروف والكلمات، قد تكون هذه الصورة مركبة، وقد تكون بسيطة، وقد تكون بسيطة مركبة اعتمادًا على رؤية القارئ لها.
أما اللغة فهي البحر ذو العجائب، فالنحو والصرف واتباع أبجديات الفن اللغوي أركان رئيسة في النقد الموضوعي، تعطي دلالات عميقة وبعيدة ومحورية في النقد.
هل استخدم الكاتب الكلمات البليغة، أم الفصيحة؟! وهل كانت دلالة الكلمات بعيدة المدى أم قصيرة؟! هل كلماته فخمة وجزلة أم عذبة؟! إلى غير ذلك.
أما الأسلوب فهو الطريقة التي يتبعها الشاعر أو الكاتب في إيصال فكرته للمتلقي، هل هو سهل ممتنع؟! أم سهل يسير وسطحي؟! أم عميق استحق العمق؟! أم عميق بلا حاجة؟! هل استطرد الكاتب فيه ليستعرض عضلاته الأدبية أو اللغوية أو الكلامية؟! أم كان متبعًا حكمة خير الكلام ما قل ودل؟! هل طرق التعبير عن المعنى الواحد في صياغة الكاتب متعددة أم موحدة؟! هل يحسن الوصل بين الجمل أم لا؟! إلى غير ذلك.
ولا يفوتنا القول بأهمية التعزيز والتشجيع لتطوير الآخرين، وخاصة عندما يكونون في بداية المشوار، فالبذور تحتاج لبيئة خصبة لتصبح براعمَ، والبراعم تحتاج بعض الماء مع التربة الخصبة وضوء الشمس لتصبح أشجارًا وارفة الظلال.
إن نقد المبتدئين يختلف – جملة وتفصيلًا – عن نقد الكبار في كل أدواته، غير أن الكثير يخلط الحابل بالنابل فيضيع البوصلة.
من هنا كان لزامًا علينا أن ننصف الآخرين في أحكامنا عليهم، وعلى مقالاتهم، أو قصائدهم متجردين من الذات وموضوعيين في الطرح، بعداء عن الإسقاط، أو التطبيل، لنصنع من مبدعينا قادة وسادة ومتميزين.
أما الإطراء غير المستحق فقد يحول البئر بحرًا والسراب ماءً، ثم تمضي السنون ولا نجد أثرًا. وأسوأ منه التسقيط – وما أكثره وما أقبحه – فهو القاتل الخفي للأفكار، وللإبداعات، وللجمال، وللفن، وللحب.
إن ما يمارسه البعض في هذا المجال – تجاه من لا يحبون- أبشع من البشاعة نفسها، وأسوأ منه أن الممارس له لا يدري ببشاعة عمله وأثره في نفوس المبدعين.
إن كنت من المهتمين بالنقد، والعارفين بأصوله وأبجدياته، فلا بأس بأن تطرح رأيك في تقييم الآخرين ما دامت منطلقاتك سديدة وتطلعاتك بنائية وتطويرية، وإن كنت غير مدرك لأبعاد ذلك فلا تهرف بما لا تعرف وأعط القوس باريها، أما أن تؤله قزمًا أو تسقط هرمًا – بلا مبرر – فأمر معيب ينبغي تجنبه.
وفي حال أعجبك شيء أو راقك، أو توافق مع ميولك فقل فيه حُسنًا ولكن تحت وجهة نظرك الانطباعية فحسب، وفي حال لم يعجبك فلا تنل منه، ولكن عندما تحب أن تبدي رأيك فقل لا أتوافق أو لا أميل لذلك بعيدًا عن التراشق والتسقيط.
وخلاصة القول: حين يكون الناقد بين الناس جاهلًا أو ظالمًا تضيع الحركة الأدبية وتضيع مكتسباتها، وكذلك الحال حين يكون الناقد مفلسًا من أبجديات النقد.
النقد علمٌ مستقل ومتكامل له أصوله وأدواته الخاصة كما أن له مختصين به، أما الانطباع الشخصي فهو رؤية ذاتية ليس إلا.
أسعدوا أنفسكم ومن تحبون بكلماتكم الطيبة الجميلة، وتجاوزوا عمن لا تحبون؛ فالدنيا لم تُخلق لأحدٍ مرتين.
نسأل الله أن يأخذ بأيدينا وإياكم للنقد البناء الذي يحيي الأراضي القاحلة لتصبح واحات غناء تملأ النفوس حبًا وسعادة.