بث الحسين (1).. الهلال الجزار

بدخول شهر محرم الحرام نحن نلج لساحة عرض بانورامي عرضها السماوات والأرض لبث حسيني دون أن نُدرك أرقام مقاعدنا في تلك الساحة وإلى من نجاور وهل نحن بأول الصفوف أو بآخرها.

البث يخضع لتقنية إلهية تغوص عبر أحقاب الزمان لإيصال العرض الحسيني للأذهان بصورة أقرب للواقعية لجيل وصل للألفية الثالثة.

لا تخشى من سوء الإمدادات التقنية أو انقطاع الصوت وعدم وصوله وتأخر العرض عن وقته كما يحدث عند البشر، فكل ذلك ليس واردًا هنا مع بث الحسين.

فلنبدأ بليلة الأول من محرم التي غدت ليلة مهيبة بعرضها، حيث كشف الستار عنها لتوجه الأنوار باتجاه السماء لتتركز الأنظار على ذاك البطل الذي مثل دور الهلال بصورة مفجعة، فكان كمنجل الجزار الذي لا يرحم كل من ينظر له لتخر دموعهم دون إرادة، وقد يصل الوضع لتوسل استدرار الدمع بالتباكي وكأنهم يقولون له هل من مزيد؟

دور البطولة للهلال لم يأت من فراغ بل من تأثير امتد بطول الزمن دخل بعدسة البصيرة التي تستشعر وجود قميص ممزق إلى جانبه يُشم منه رائحة عطر يوسفي عبقًا لدمٍ زاكي لجسد بضعته السيوف ورضرضته حوافر الخيل.

هذا الهلال تناوبت في بث عرضه عدة قنوات شهدت الأرض بقوة تأثيره وأدائه بتجسيد قوة الدموع التي تُذرف عليه لتهبط خاشعة بالأرض لتجمعها قوارير فاطمة (ع) منذ أن يلوح بالسماء معلنًا حلول شهر المحرم.

سأذكر بعضًا من تلك القنوات ولا أستطيع تفصيل الجميع.

باتجاه سماء المدينة المنورة كانت هناك عيون دامعة تنظر لزيّ الهلال الذي ارتداه ليلة الحادي من محرم، كان زيه متلائمًا مع دور الجزار الذي تتلطخ ملابسه عادة بالدماء القانية الحُمرة.

عين واحدة لمرأة كانت تنظر لعرض الهلال بأسى وحزن شديد تحسبها في سن الكهولة من انحناء ظهرها ولكنها بالواقع شابة بعمر الورود لم تصل فيه لسن العشرين، ولا تسلني لما تنظر له بعين واحدة لأني سأعتذر عن الإجابة.

وحيث إن عين واحدة دامعة قد لا تشفي غليل حرقة أم ثاكلة ولدها لهذا قد تسمعها توزع بطاقات الدعوة للبكاء على ولدها وإقامة المآتم لينوح العالم عليه وهي لا تزال تنعى منادية:

أنا الوالدة والگلب لهفان وادور عزا ابني وين ما كان
أنا الوالدة المذبوح ابنها وطول الدهر ما گل حزنها

وقد تكون بصيغة أخرى:
وينه اليواسيني بدمعته على ابني الذي حزوا رگبته
اوتمت ثلث تيام جثته اويلاه يبني الماحضرته

وهناك من جهة الشام قناة أخرى تستضيف ذاك الهلال ضمن قائمة برنامجها الأكثر شجى، حيث تروي معه قصة الروع الذي يخلفها على قلب امرأة أخرى لأنه يأذن بحلول أيام رزيتها ومصابها التي تحوز معه لقب أم المصائب وجبل الصبر بجدارة.

وعن آخر قناة غير معروفة الوجهة تستضيف هلال الكدر، فلا تسلني لما صاحبها يبكي من خلف الستار بدموع مدمومة حين يأتي ذكر الهلال ويتم نداؤه به بنغمة جماهيرية حزينة:
يا هلالاً غائباً عن كل عين..

الأسى أكبر من أن يقفل أو أن يكون له .. يتبع


error: المحتوي محمي