أطلت سنةُ ٦١ هجرة وانقسمَ الناسُ قسمين، جرحٌ هناكَ وسيفٌ هنا، جَمعٌ هناكَ وفَردٌ هنا، فَرَحٌ هناكَ ودَمعٌ هنا، مَوتٌ هناكَ ورَقْصٌ هنا. عشرةُ أيام من شهر محرم انتهت بقتلِ رجلٍ سَيِّدٍ كبير يفخرُ به لقبُ “ذبيح الفرات”، مصروعاً على شاطئ الفراتِ التفت حوله الجيوش.
اتسعَ الفتقُ على الراتق وللآنَ لم تندمل جراحاتُ تلك السنة. ولن تندمل حتى يجف ماءُ الفراتِ الذي قُتل ذلك السيدُ قريباً منه وهو ينظر إليه رقراقاً من بعيد، دون أن يتمكنَ من الوصولِ إليه والارتواء منه أو جلبَ القليلِ لمن كان ينتظرهُ في الخيمةِ منَ الصغارِ والنساء.
هناك أحداثٌ في التاريخ مثل المرآة، وجهٌ صقيلٌ يعكس الحقيقةَ يقف خلفه وجهٌ معتم، وأحداثٌ أخرى تشبه صفحةَ الماءِ الراقدِ أيَّ جهةٍ نظرتَ لها انعكس منها الضياء. هكذا هي كانت تلك الأيام من سنة ٦١ للهجرة، جمعت المحاسنَ والأضداد، وغيرت وجهَ تاريخ المسلمين، بل غيرت تاريخَ العالم! ولعظمةِ هذا الحدث والسيد الذي أقامه يُذكر في الكتبِ أن جده محمدًا وأباهُ عليٌّ عرفا أينَ يكون مصرعه وبكياه قبل أن يرحلا من الدنيا.
ذلك السيد الكبير “الحسين”، له أفضل التحايا والسلام، جمعَ مآثرَ جمة حياً كان وميتاً، بليغاً في حياتهِ وبعد مماته. يذكر التاريخُ أن الحسين (ع) كان في الحج ولما كان عشية يوم عرفة، يوم التاسعِ من ذي الحجة، رآهُ أخوان هما بشرٌ وبشير ابنا غالب الأسدي، خارجاً من فُسطاطه متذلّلاً خاشعاً، يمشي هوناً هوناً حتّى وقف هو وجَماعةٌ من أهلِ بيتهِ وولده ومواليه في ميسرةِ الجبلِ مستقبل البيت الحرام، ثمّ رفعَ يديهِ تلقاءَ وجهه كاستطعامِ المسكين تحتَ شمسِ الحجاز التي تأخذ الأنفاسَ وانحدر مثل السيلِ الجارفِ من قممِ جبالِ عرفات في المعنى والمنطقِ وطول المقال. أجزم لو اجتمعَ فصحاءُ وبلغاءُ الأمة تحت أفضلِ الظروفِ والأزمنة وأرادوا أن يُنشئوا أسطراً، أو جُمَلاً قليلة، مما قال لم يستطيعوا في أي مدةٍ اختاروا!
في مثلِ هذه الأيام من سنةِ ٦١ للهجرة رقد ذلك السيد بجراحاتهِ في سلامٍ، يعظ الناسَ في منظرهِ تحتَ شمسِ العراقِ وفوق رمالها. يعظهم أبلغَ من أي عظيمٍ وعظَ الناس في حياتهِ وفي موته. رباه! كلما قلبتُ صفحات الأيامِ سائلاً لها: لم حَملتِ ما حملتِ من أجِنَّةٍ مشوهة؟ ماذا لو كانت عاقراً لم تلد ما ولدت، كيف كان أمسنا وكيف يكون يومنا وغدنا؟ وبعد كل سؤالٍ يعيد صدى الأيام الجوابَ: ماذا لو؟ دون حقيقةِ المعرفة.
أسئلةٌ تتردد لأن مفاعيلها بقيت حيةً تنبعث مثل سباعِ الوادي الآمن كل حين، تقض مضاجعَ ساكنيه وتقتل آمالهم، فلكَ مني سلامٌ أيها السيدُ الحسين، طبتَ حياً وطبتَ ميتاً يروي السحابُ الماطرُ أعظمك الخَيِّرة.
لو كنتُ أحسن الرثاءَ رثيتك
ولو كنتُ أحسن المديحَ مدحتك؛ لذلك ليس غير الصمتِ أنفع في حضرتك
هل لي أن أتخيلَ في يومِ موتك أمَّاً وأباً وجَدَّاً مكلومون نزلوا من أعالي الجنانِ لفوا روحكَ في حَرِيرَةٍ بيضاءَ وصعدوا بها السماء لتشهدَ علينا بأنَّ قلوبنا وسيوفنا معك. يا روحَ الحسين اشهدي أننا لو كنا معه ما تزحزحت حوافرُ خيلنا وما كَلَّت بواترُ سيوفنا عن نصرتهِ والذب عنه، أو ننتهي حيث انتهى. الآن ذلك لم يحصل، سوفَ تنوحكَ أرواحنا قبل أن تنوحكَ أجسادنا ذِمَمَاً وفية…