أمي العودة ونكهة الجنة

تستيقظ من الصباح الباكر لتحضّر ذاك الحليب الذي مازلت أتذكر طعمه اللذيذ حيث كانت تعده أمي العودة “رحمها الله” لإفطاري حين كنت أنام لديها وأنا صغيرة، وتعجز ذائقتي عن الرضا عن إعداد غيرها له، وأشك بوجود حليب بذات طعم حليبها الصباحي الخاص الذي لا يوجد إلا بغرفتها، ولا أعلم إن كان هذا سببًا لعدم حبي للحليب حين كبرت؟

لا أكذب حين أقول إني أستشعر تلك اللحظة وأنا بحال كتابة هذه السطور حين تسكب الحليب بكوبي وينبعث الدفء منه لتفوح منه رائحة زكية أعجز عن اختيار وصف لعبق نكهتها وأظن إنها ممسوسة بنكهة الجنة.

لا أعلم أقرأتم يومًا أو سمعتم عن تلك الرواية التي كان مختصرها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاطب نحلة يومًا قائلًا: أيتها النحلة إن طعامك من أزهار الورود وهو مر فكيف يتحول إلى عسل حلو؟
لتقول النحلة: يا رسول الله إن حلاوة العسل جاء من بركة ذكر اسمك المبارك واسم أهل بيتك الطاهرين (عليهم السلام)، فعندما نمتص رحيق الأزهار يلهم إلينا أن نصلي عليك وعلى أهل بيتك المعصومين ثلاث مرات فلما نكمل ذكر الصلوات يصبح عسلنا حلوا.
(خزينة الجواهر ولمعات الأنوار: ص 586).

ولا أعلم هل جربتم يومًا الطبخ وذكر محمد وآله عليه؟ وكيف كان مذاقه وحكم الآخرين عليه والفرق بينه وبين طعم الذي لم يذكر عليه شيء؟

أجزم بعشر أصابعي أن كل طعام تمسه بركة ذكر تلك الأسماء الطاهرة تتحول تركيبته لتركيبة عجيبة ذات طعم خاص تعجز أرقى مطاعم العالم عن صنع نفس نكهته، لهذا كان “المحموص” بأيام عاشوراء لدينا ذا طعم مميز خاصة المعد بالمنازل وخارج إطار المطاعم لأن هناك فصلًا من فصول إعداده يُذكر فيه الحسين حال سكب الماء على البصل الذي كاد أن يحترق من الحرارة.

أعود لنكهة الجنة التي اكتشفت أنها كانت الوصفة السحرية التي تستخدمها أمي العودة حال إعداد طعامها وحتى لو لم أكن أراها يومًا وهي تعده لأني أكون نائمة وقتها، ولا أشك أن السر في ذكر أمير المؤمنين علي (ع).

فأنا للآن لم أجد شخصًا يلهج باسم علي مثل أمي العودة، ففي كل حالاتها كانت تذكره، حتى في أيامها الأخيرة التي وصلت لنسيان أسماء من حولها من عائلتها وأولادها وبناتها إلا أنها كانت تحتفظ باسم علي بقلبها ولا تنادي إلا عليه وصوتها باسمه كان يعلو حين يُطلب منها أي شيء ويتعسر عليها فعله من حالة المرض التي كانت عليها.

أمي العودة باسم علي كانت ناعية يخشع لصوتها المستمعون بالمآتم حتى لو كانت غير قارئة، لكنها تحفظ الأبيات عن ظهر قلب، في الفترة التي كانت تنسى من حولها رأيت أخي بعيني وسمعتهما بأذني حيث كان يُلقي عليها أبيات حسينية وهي من تكملها ويصيبني العجب كيف لمن نست أسماء أولادها أن تتذكر تلك الأبيات وتُكملها عنه وتشاركه في إلقائها.

قطعًا هو الحب الذي يسكن بالروح ولا تزلزله حالات تدهور الجسد فيحتفظ بكل ما يخص المحبوب.

واليوم بعيد الولاية أجد أني مدينة لأمي العودة “رحمة الله عليها” بحبي لأمير المؤمنين علي (ع) لأني تعلمت الحب منها ومن أمي وأبي، وأحمد الله على هذه النعمة التي توازي نعمة الوجود بالحياة.

فلا عذب الله أمي إنها شربت
حب الوصي وغدتنيه باللبن

وكان لي والد يهوى أبا حسن
فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسن

فعلى حب علي أود أن تُهدى لروح مُحبة علي أمي العودة أم علي عبق الفاتحة لأنها تستحق الهدايا المتعطرة بعيّد علي وكل عام وأنتم بخير.


error: المحتوي محمي