أسس التكامل والظفر في فكر الإمام الجواد (ع)

ورد عن الإمام الجواد (ع): “الثقة بالله تعالى ثمن لكل غالٍ، وسلم إلى كل عالٍ” (بحار الأنوار ج ٧٨ ص ٣٦٤).

الارتباط بعالم الغيب وتحويله إلى منهج حياة يكتنفه بعض التشويش، من خلال القصور الفهمي لوجوده وآثاره وتصور البعض أنه انفصال عن الواقع ومحاولة إرضاء وإقناع قسري من الفرد لنفسه لقبول واقعه، في حين أن الشخصية الإيمانية تمازج في عناصر قوتها ما بين القدرة المسيرة والمهيمنة على مقادير الأمور (مسبب الأسباب) وبين تحريك وتوجيه طاقات الفرد وملاكاته العقلية نحو الرشد والنضج، ولا يوجد أي تنافٍ وتباين بين العالم المعنوي الروحي والعالم المادي حتى يقال للإنسان: اختر أحدهما، فإن اختار الواقع الغيبي اتهم بالتخلف والضعف، وإن اتجه نحو العالم المادي البحت كان ذلك عندهم دلالة على التميز والتحضر والوعي!

والحقيقة أن العالم المادي البحت والذي يركز في أحد جوانبه إلى تنشئة وخلق الشخصية القوية من خلال احترام الفرد لنفسه وقدراته؛ لينطلق بعدها في رحلة معرفتها ومن ثم الاتجاه بها نحو التنمية والتطوير فلا نجاح ولا إنجاز لمن ترك هذا المسير، وهذا الكلام لا غبار ولا خدش فيه إلا من جهة اعتبار التنمية الذاتية عاملًا فريدًا لا يتشارك مع غيره في التأثير والسير التكاملي، في حين أن الإنسان في عالم التأثير يعد أضعف العوامل وذلك أن كل شيء من حوله قد يحدث عرقلة وتعثرًا في مسيره، ومن جانب آخر فإنه – بحد ذاته – أضعف من تجاوز أمور وإطارات لا قبالة له بها كالمرض وبعثرة الأماني وهجمات الزمن العاصفة واختطاف الأعمار من حيث لا يدري، فكم من إنسان طال سهره للتخطيط لغد لم يكن له فيه أي بصمة وجودية بل رحل قبل حلوله!
وكم من شيء بسيط لا يخطر بالبال كان ماحقًا ومنهيًا لآمال معلقة وماسحًا لصورة مشرقة للتقدم والنجاح مسحتها سوافي رياح التغيير والقاهرية!

عملية تربية الذات وتطوير قدراتها بلا شك أنه أمر مهم ومطلوب عقلي قبل أن يكون دينيًا لبداهته وفطريته، إلا أن الإنسان أعجز من الاتكاء على نفسه فقط فضلًا عمن يخذله في ساعة العسرة والصعوبات، وعليه في الحفاظ على نفسه البحث عن عامل يساعده على النهوض مجددًا ويلهمه الأمل المستمر، ويدفع عنه لحظات اليأس وانخرام العزم التي يسقط عندها كثير من الناس، والذين تتحول حياتهم إلى البؤس والشقاء بسبب إخفاق أو خسارة من هنا وهناك.

العامل القوي المحرك لعجلة النمو والقوة والثبات وشجاعة المواقف والطموح المستقبلي الباهر هو الثقة بالله تعالى وتفويض الأمور إليه بعد الأخذ بالأسباب والمقدمات المادية؛ لتحصنه بأمل لا نظير له لا يتهرأ ولا يضعف أبدًا مهما كانت أمواج الاختبار عاتية، وهذا لا يعني الإغفال وتجاهل الأخذ بالأسباب المادية والاتكاء – جهلًا – على إمطار السماء له بالأرزاق بمجرد رفع الكفين، بل الثقة بالله تعالى والتوكل عليه نفض غبار الكسل والتسويف عن النفس والعمل الدؤوب للوصول إلى الغايات والأهداف، وكل ما يسلب منه الإرادة القوية كاليأس والشعور بالضعف والعجز يعززها الثقة بأن مقاليد الأمور بيد الله تعالى، فلم الخوف والقلق؟!
الثقة بالله تعالى ثمن لكل غالٍ ونفيس من معالي الأمور كالسؤدد والإنجاز والتقدم والنجاح، وذلك أن الإرادة التي لا تقهر ولا يصيبها الخوار بسبب تكالب المصاعب والمحن هي فقط التي ارتبطت بمدد من السماء، وأما من اعتمد على قدراته المادية فقط فسيقع فريسة سهلة لمصاعب الأيام والعثرات والإخفاق، والذي سيداهمه بشل فكره وقدراته.

كم من مرة ضاقت السبل وانقطعت الاحتمالات المتواردة في الذهن، فجاء ذاك المؤمن الخلاص والمخرج من حيث لا يحتسب ولا يتوقع، وما ذاك إلا لصبرهم وثقتهم بوعده تعالى وحكمة تقلييبه لشؤون عباده الذين أدركوا معنى: “قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل”.


error: المحتوي محمي