ورد عن الإمام الصادق (ع): “قطيعة الرحم تحجب الدعاء” (نزهة الناظر ص ٣٧).
لكل ذنب تجسيد هو تأثيره على الميزان الأخروي للمرء، وهذا ما يضعه على دكة المحاسبة والتأمل والنظر في عواقب الأمور ونتائجها، ففي لحظات الغفلة والجهالة والغضب يتخذ من المواقف المتهورة والخطيرة التي تلحق به الضرر الكبير، فليكن طريق النجاة الذي يطلبه ينطلق من تحمل مسئولية ما يصدر منه، فالأهواء والميول النفسية والانفعال تسلب منه روح الإيمان والحكمة وتجعله عرضة للويل والثبور.
وبعض المعاصي التي يرتكبها الإنسان تنشطر آثارها الوخيمة بين الدنيا والآخرة، ففي يوم القيامة يواجه عقوبة الذنب كما أنه في الدنيا يتعرض لنقمات إلهية، ومن تلك الذنوب الكبيرة قطيعة الأرحام فإنها سرطان ينتشر في جسمه الإيماني المعنوي، ومن تلك المناطق الحساسة التي تضربها هي مناجاته مع ربه، فتكون حائلًا يحجز الاستجابة الإلهية لدعائه، فلا ينتفع من طلب حوائجه من الوهاب المعطي، والمنع هنا حقيقي بمعنى عدم وجود أي أثر أبدًا كعقم الأرحام، إذ يختلط الأمر على البعض ممن تأخر إجابته لحكمة ربانية فيحسب أن دعاءه لم يستجب له، فالصورة القرآنية للدعاء واستجابته واضحة كالشمس في رابعة النهار {ادعوني أستجب لكم}، فأي دعوة صادقة تتوفر على شرائط الاستجابة تقبل وتتحقق هي أو غيرها أو تأخر لمدة معينة أو تدخر له في يوم القيامة، وأما دعاء قاطع الرحم فمنعدم الأثر ولا يترتب عليه شيء، فما جنى قاطع الرحم على نفسه فحرمها من نفحة سنية كبرى بسوء تصرفه!!
وقطيعة الرحم من المفاهيم الواضحة التي لا تحتاج لطول بيان، فهو يشير إلى حدوث الخصومة وتجاهل الآخر وعده من الأعداء الذين يكن لهم الكراهية والحقد، وهذا البيان يضعنا على الطبيعة النفسية لقاطع الرحم، فقطيعة الرحم لون من ألوان المشاحنات والمشاجرات الناجمة عن خلاف مالي أو وجاهتي أو تنافس على دنيا، ويمتاز قاطع الرحم بقلب أسود يتسع للحقد على الآخر والاستعداد لبذل الجهود والأوقات في سبيل تسجيل انتصار وهمي عليه، ويحمل روح التشفي وحب وصول الضرر له والسعي للانتقام منه.
ولا يتوقف هذا الشرر المتطاير على مستوى الكراهية الفردية بل ينتقل لبقية الأفراد المحيطين به، فيحاول نقل الأحداث والأخبار التي تؤيد موقفه وتزرع في قلوبهم الكراهية مثله، فيتضاعف ذنبه لسعيه في إفشاء الكراهية، وإذا لا سمح الله تفشي هذا الوباء الاجتماعي سيؤدي إلى تفكك عرى المجتمع الوثيقة، وهذا من نتائجه تلاشي التعاون والتآزر والتكافل بين أفراد المجتمع.
فهل يوجد منا من يرغب في تحويل كيانه المكرم إلهيا بقلب أبيض يتسع في مشاعره للجميع إلى بؤرة سوداء مقززة منفرة، تحمل كل ألوان الفساد الأخلاقي من كراهية وغيبة وفتن وأوقات يضيعها في ما يجلب له الضرر الكبير في الدارين؟!
العاقل من توقف هنيهة وتفكر في كل فعل ونتائجه ليتخذ منه الموقف المناسب، وقطيعة الرحم -وإن لم يرد بها نص قرآني ورواية شريفة – لكفى بإرشاد العقل هاديًا نحو ضرره الكبير ونتائجه الوخيمة على الفرد والمجتمع، والسبيل لتلاشي وتلافي هذا الذنب الكبير المستوجب لدخول النار في الآخرة والحرمان من استجابة الدعاء في الدنيا – مع وجود آثار سلبية أخرى – هو دراسة أسبابه المؤدية إليه وتلافيها، وتعدادها له جامع مشترك وهو لحظات الانفعال وسيطرة الشهوة الغضبية على كياننا، فنتحرك حينئذ بمشاعرنا المتأججة وأفكارنا الواهمة ونلغي وجود العقل وسيطرته، فمهما كانت أسباب الخلاف والزعل المؤدية لاتخاذ هذا القرار الخطير، يمكننا من خلال تحملنا لمسئولية قراراتنا واتخاذها بتأنٍ، وكذلك بامتلاكنا للغة التفاهم والحوار والتشاور وطلب النصيحة أن نكون في موقف قوي وحكيم فيما نتخذه.
فكما أن القرآن الكريم يئد الغيبة من عقولنا وقلوبنا بتصويرها كأكل لحم الميت، فقاطع الرحم في الدنيا صورته الروحية مسلوب التوفيق من الله تعالى ومن استجابة دعائه، وأما الصورة النفسية والاجتماعية فشخص مشغول الكيان بالخلافات وزعزعة العلاقات الرحمية بالنزاعات التي تمتد كالنار في الهشيم، وأما قلبه فيمتلئ بالأحقاد والضغينة ويورثها لأبنائه بدلًا من الأدب والتربية الحسنة.
ولا ننكر حدوث الخلافات والمناكفات والحزازات في المواقف المختلفة، ولكن ما ننكره تحويلها لساحة حرب فتنوية على مستوى الأرحام أو غيره.