استطيقا الامتنان

كثيرةٌ هي الأشياء التي أودعت جمالًا في هذا الكون البديع، وتشعر بإعجاز الإبداع حين تتوغل في هذه النفس البشرية وفي أحوالها؛ وما لها من أثر حسب طبيعة سلوكها على من حولها. لم يكن الإنسان إنسانًا لو لم يأنس بالآخر ويهتم بجمال ما انعكس من فطرته النقية على تفاصيل هذا الكون وكائناته وما تأمل في آفاقها.

إن سلم التأمل عالٍ ومثير ومشبع بالأمثلة التي لا تحصرها الكلمات ولا تحدها المادة. إنه مورد خصب لسبر فضاءات المعرفة بالخيال، متكئِة على الواقع بمسلماته ومجرياته.

وأولى المنّة للوالدين، وللأم ترجح كفة الميزان لما هي عليه بفطرتها، فالشعور بالامتنان هو سلوك يكتسب أيضًا من البيئة والفضاء الأسري والتربوي كما الإيثار والصدق وغيرها.
وواحدة من جمال الامتنان عندما يهبك أحدهم ويعلمك مهنة؛ فهو الأداة والوسيلة المرسلة من الله لتغنم رزقًا.

التاريخ ممتلِئ بهذا الجمال، والاعتراف والإذعان بمحبة واحترام لليد الأولى التي أنقدت أحدًا ما من الفقر مثلًا؛ إذ ينقل أن الشاعر البحتري – وهو المعروف أنه تلميذ أبي تمام الذي دعاه بعض النقاد بـ”قينة الشعراء” – عندما سُئل عن أستاذه أبي تمام أيكما أشعر؟ قال: “جيدهُ خير من جيدي، ورديئي خير من رديئه” (1)، وقول آخر: “واللهِ ما أكلت الخبزَ إلا به”.

وهكذا سيرة الأعلام والعلماء يحيون السلام الداخلي، فمهما علا كعبهم تجدهم غاية التواضع والامتنان، فهذا العلامة محمد جواد مغنية (رحمه الله) ورد ما مضمونه في كتابه الموسوم “تجارب محمد جواد مغنيه بقلمه”: “الإنسان الوحيد الذي لا أنساه هو الرجل الذي نقلني إلى العراق دون مصلحة أو مقابل، فكانت نقلة كبرى في حياته”.

أما على مستوى المجموع فكل فرد منا مدين لكثير من القيادات والمرجعيات الفكرية والدينية بالإرث والأثر الذي خلفوه، وهو الذي نقلنا من الجهل للعلم ومن الحرب إلى السلم وغير ذلك، فعلى سبيل المثال (لا الحصر) ندين بامتنان في هذا الزمان لسماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني (حفظه الله) بوأد الفتنة المذهبية بين الفرقاء وكذلك وسط البيت الشيعي؛ وكثير من المناقب التي تبرز حكمة القائد العظيم. إن صمته حكمة، ونطقه وفتواه رحمة ونجاة.
وهو بعزلته كجده الإمام الحسين (عليه السلام) المظلوم وهو الوحيد على رمضاء كربلاء هدفه الله ذائبًا فيه؛ ولذا كل ما تراه من طقوس العطاء والمحبة والبكاء وتحمل عناء المشي بمسيرات مليونية والخدمة بلا مقابل إلى الإمام الحسين (عليه السلام) هو ذروة استطيقا الامتنان.

(1) بدر الدين الحاضري، ديوان البحتري، المجلد الأول، ص7.


error: المحتوي محمي