كانت القلوب تخفق والأنفاس تتلاحق ونحن ننتظر السيارة التي ستقلنا إلى بيت العلامة الشيخ منصور البيات في الحي القديم التراثي، والذي يفوح بعبق التاريخ، حتى رائحة الردات والنسائم البحرية تلامس صفحات الوجه كأنك أمام ساحل البحر وإن بعد عنه مسافات، ولكن بالزمن التليد وتلاحم القلوب والتصاق المباني والممرات من سوابيط وأفنية يجتمع فيها الجيران ويتبادلون الأحاديث والأجواء والروحانية والطيبة والطهارة والنقاء، إلى الأواصر والوشائج المتماسكة المتحابة والمودة والمحبة التي تجمع بين القلوب التي تعيش في مثل هذه الأماكن، فما أحلاها وأغلاها.
وعندما اقتربنا من البيت ازدادت المشاعر وخفقان القلوب، حيث سنتشرف بالدخول إلى ذلك المنزل الذي تشرف بسكنى الشيخ فيه، ونزلنا من السيارة واستقبلتنا حفيدة الشيخ أم حسن الجامع، وعادت بي ذاكرتي إلى أيام الطفولة حيث كنا نأتي مع الوالدة لزيارة السيدة ابنة عمتنا بنت العلامة السيد محفوظ العلامة وابنتها بنت العلامة الشيخ منصور البيت، وكنا بمشاعرنا وأحاسيسنا ونظرتنا البريئة، التي تنظر لكل إنسان بسموه وقداسته، حيث إنني أول رؤية أو وعي بالأشخاص أو رؤيتي للسيدة كانت في النجف الأشرف، وفي بيتهما، وكنت أرى الشيخ وأنظر إليه بإجلال واحترام، وأراقب وضوءه وحركاته بسنوات ست من العمر وبحث عن المعارف وشغف للاستطلاع وفهم ما يدور حولي.
لقد تشربنا من الوالدين حب مثل هؤلاء الأشخاص واحترامهم حتى لو كانت صورًا للذكرى، وكالعيد عندنا عندما نعلم أننا في هذا اليوم سنذهب لزيارة العلامة المجتهد الشيخ حسين في حسينيته، وكان في أواخر عمره رحمه الله، أما الشيخ منصور فهو في مرحلة الشباب بداية رؤيتنا له وكان إنسانًا غاية في السمو، وكنت أتوقف لأراه كيف يتوضأ، وانطبعت في ذاكرتي هذه الصورة، فالفطرة كانت تلح علينا للتزود والنظر لأهل العلم ومن حوله كزوجته السيدة والنظر إلى وجهها وإلى النور الذي يشرق منه وهدوئها والبشر الذي يميز وجهها الملائكي والابتسامة الرائعة، كانت إنسانة طيبة خلوقة تتميز بالهدوء، فلا غرو وقد تولدت من بيوت العز والسؤدد وبيوت العلم والمعرفة رحمها الله، وحشرها مع المتقين الأبرار محمد وآله الأطهار، فقد كان قلبها بهم عامرًا محبة وإيمانًا.