لَتَعْطِفَنَّ الدُّنيَا عَلَينَا بَعدَ شِمَاسِهَا.. وَقفة لغوية

قام أمير المؤمنين (عليه السلام) خطيبًا فقال: “لَتَعْطِفَنَّ الدُّنيَا عَلَينَا بَعدَ شِمَاسِهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ عَلَى وَلَدِهَا”، وتلا عقيب ذلك: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (1).

وهنا وقفة لغوية في النحو والصرف والمفردات والبلاغة وصولًا إلى دلالة هذا النص الكريم.

1- لَتَعْطِفَنَّ: اللام: هنا هي اللام الموطئة للقسم، وهي التي تُهيئ الأذهان وتمهد الأمر بأن هنا قسمًا، لكنه غير ملفوظ مقدَّر (محذوف)، وحركة اللام هذه الفتحة (لـَ).
والتقدير: واللهِ لَتَعْطِفَنَّ الدُّنيَا عَلَينَا بَعدَ شِمَاسِهَا.

تَعْطِفَنَّ: فعل مضارع مبني، وعلامة بنائه الفتحة (على الفاء)، وسبب البناء هو اتصاله بنون التوكيد الثقيلة المشدَّدة، في مقابل الخفيفة. قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ (2)، فالنون في “لَيُسْجَنَنَّ” نون التوكيد الثقيلة، والنون في “وَلَيَكُونًا” نون التوكيد الخفيفة، والثقيلة تفيد توكيدًا أشد من الخفيفة.

وأصبح لدينا في “لَتَعْطِفَنَّ” القسم واللَّام والنون الثقيلة، وكلها تفيد التوكيد؛ لأهمية ما يعرضه الإمام (عليه السلام)، لأن من عادة العرب أنهم لا يؤكِّدون إلا في الأمور الهامة والخطيرة، فأنت لا تقول في الظروف الاعتيادية: “واللهِ لأشربَنَّ الماء” (مثلًا)، لأنه سلوك يومي اعتيادي ولا أهمية له.

وعَطَف، يَعْطِفُ: فَعَل يَفْعِل، من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ.

وعَطف الشيءَ يَعْطِفُه عَطْفًا وعُطُوفًا فانعطَفَ وعطَّفه فتعطَّف: حَنَاهُ وأَمالَه.

ويقال: عطفْت رأْس الخشَبة فانْعطفَ، أَي حَنَيْتُه فانْحنى (3).

2- الدُّنْيَا: اسم مقصور، فاعل مرفوع، وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الألف، وإنما كانت مقدرة، لتعذُّر ظهور الضمة عليها.

والاسم المقصور هو الاسم المعرب الذي ينتهي بألف لازمة مفتوح ما قبلها، سواء أكانت الألف قائمة (ـا)، أم على شكل الياء (ـى): العصا – الفتى.

قال تعالى: (إِذْ أَنتُم بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالعُدْوَةِ القُصْوَىٰ) (4).
“الدُّنْيَا، القُصْوَى”: اسمان مقصوران.

و(الدُّنْيَا): دَنا من الشيء دنُوًّا ودَناوَةً بمعنى قَرُبَ. قال الليث: الدُّنُوُّ غيرُ مهموز مصدرُ دَنَا يَدْنُو فهو دانٍ، وسُمِّيت الدُّنْيا لدُنُوِّها، ولأَنها دَنتْ وتأَخَّرَت عن الآخِرة، وانْقَلَبت الواو فيها ياءً لأَن (فُعْلى) إِذا كانت اسمًا من ذوات الواو أُبدلت واوُها ياءً:
الدُّنْوا: الدُّنْيَا (5)

وقد تكررت هذه المفردة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة مئات المرات، بل أكثر.

3- عَلَينَا: “على” من حروف الجر، مبني (وكل الحروف مبنية)، وعلامة بنائه السكون، و”نَا” ضمير متصل مبني (وكل الضمائر: المتصلة والمنفصلة مبنية)، هو لجماعة المتكلمين، وموقعه الإعرابي محل جر.

والعامل في الجار والمجرور هو ” لَتَعْطِفَنَّ”.

4- بَعدَ شِمَاسِهَا: “بَعدَ” مفعول فيه (ظرف زمان) منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة، وهو مضاف، و” شِمَاسِهَا” مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة الظاهرة، وهو مضاف، وضمير المفردة الغائبة “ـها” في محل جر بالإضافة.

و”شِمَاسِهَا” مصدر الفعل الثلاثي: “شمس” على وزن “فِعَال”، وهو قياسي يأتي لما دلَّ على امتناع، من شَمَسَت الدَّابة والفرسُ تَشْمُسُ شِماسًا وشُمُوسًا وهي شَمُوسٌ: شَرَدتْ وجَمَحَتْ ومَنَعَتْ ظهرها (6).

5- عَطْفَ الضَّرُوسِ: مفعول مطلق منصوب، وعلامة نصبة الفتحة الظاهرة، وهو مضاف، و” الضَّرُوسِ”: مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة، وهو جمع تكسير.

والمفعول المطلق هنا مبين لنوع الفعل.

و”الضَّرُوسِ”: الناقة السيئة الخلق تعض حالبها (7).

وبهذا الفعل السيئ يمتنع ولدها عن الرضاعة منها، فيبقى جائعًا.

قال بشر بن أبي خازم:
عَطَفْنا لَهُمْ عَطْفَ الضَّرُوسِ مِنَ الـمَلا
بشَهْباءَ لَا يَمْشِي الضَّرَاءَ رَقِيبُها (8)
يذكر حربًا كانت بين بني أسد وبني عامر، فانهزمت بنو عامر في ذلك اليوم.

عَلَى وَلَدِهَا: جار ومجرور، وضمير المفردة الغائبة (ها) في محل جر بالإضافة.

و”وَلَد”: على وزن فَعَل، وجمعه “أَولَاد” على وزن “أَفْعَال” جمع قلة.

والمحصل من المعنى أن الدنيا ستميل على أهل البيت (عليهم السلام) ويؤول الأمر إليهم، وإن انصرفت عنهم زمنًا طويلًا؛ فإن العاقبة للمتقين.

وقد اشتمل هذا النص على تشبيه “تمثيلي”: ميل الدنيا وانعطافها بعد انصرافها عن أهل البيت، بميل الناقة سيئة الخلق (التي تعض حالبها) على ولدها بعد منعها منه، فها هي قد عادت إليه وحنَّت عليه بعد قسوتها وخشونتها، وكأنها الفطرة التي تعود وإن اعتراها بعض الكَدَر.

وهذا تشبيهُ أمرٍ معنوي بأمر حسي من واقع بيئة العرب، لتقريب الصورة.

وقد جاءت النصوص الدينية للتأكيد على هذه الحقيقة، منها ما استشهد به الإمام (عليه السلام): ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (9).

ومنها قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (10).

وقوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (11).

ومنها ما أجمعت عليه الأمة من حديثه (صلى اللَّه عليه وآله وسلم: “لو لم يَبقَ من الدُّنيا إلا يومٌ لبَعَثَ اللَّهُ فيه رَجُلًا مِن أَهلِ بيتي يملؤُها عَدْلًا كما مُلئِتْ جَورًا” (12).
==============
(1) القصص: 5، وشرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد 29/ 19.
(2) يوسف: 32.
(3) لسان العرب، ابن منظور، “ع ط ف”.
(4) الأنفال: 42.
(5) لسان العرب، ابن منظور، “د ن و”.
(6) لسان العرب، ابن منظور، “ش م س”.
(7) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 19/ 29.
(8) شرح أبيات المنطق لابن السكيت، السيرافي (أبو محمد يوسف بن الحسن)، ص 441.
(9) القصص: 5.
(10) الأنبياء: 105.
(11) النور: 55.
(12) بحار الأنوار، المجلسي 51/ 102، الدر المنثور، السيوطي، 7/ 340، ومصادر الحديث كثيرة.


error: المحتوي محمي