أين الدائرة !

رسم طفلي يومًا ما سيارة، عجلاتها بشكل المربع، فعجبت لذلك، قال لي: ماذا لو لم تكن العجلات دائرية؟ ترى ما لذي سيحدث؟ فقلت له: هل تتوقع أن تسير السيارة لو كانت العجلات مربعة؟

في الدائرة تنطوي شريعة التعاقب والتداول والمسير، كما تنطوي الطرقات المنحنية في الآفاق نحو أطراف الأرض، الأرض التي لو لم تكن كروية لما لج الإبحار بلبَّ ابن ماجد وكريستوفر وجاسا خلال الديار ووطئا ما خلف الشواطئ والمحيطات من حيث لم يعلموا بما تخبئه كرويتها، وفي الدائرة انجلاء العتمة وإسفار الصباح في حنوٍ رقيق على طينة ذاك البشري من غير أن يشعر بدوران كوكبه فلا تموج وطأته ولا تفلت الأشياء من قبضته، وفي الدائرة يرتكز محجر عينيه فتنجلي الحقائق من غير زوايا يتوارى فيها الصدق عن الحواس، تواري الكذب في لحن اللسان، وبها يستدير خاتم بخنصره يقدس له عشق قلبه، وفيها يتكوم صغيراً في رحمٍ دائري، يداريه في ظلمات ثلاث عن الآثام والآلام والضوضاء، وبعد صرخة وضعه يُدار حول جسمه قماط يحتضنه ويقدمه للدنيا، وبعد أنَّة نزعه يُدار حول جسمه كفن يحتضنه في قبره ويقدمه للبرزخ، وبها كان تسبيحه يمر بين أصابعه يدور بمسبحةٍ عطرة، وعلى أثر الدائرة تدور خطى المتعبدين حول البيت الحرام في الأرض ويتبعهم مثلهم من في السماء حول البيت المعمور، وبها يشعُ وجه القمر على صفحة البحر الحزين في ليلٍ حالك، فيشعُ بلآلئه كقطع الفضة على الموج المتراخي.

يعود ويسألني طفلي؛ من الذي اكتشف الدائرة يا أمي؟ في البدء اكتشفت أنها على شكل مغلق مستوٍ، صاهر الإنسان بينها وبين ما يرى من القمر والشمس وبعض الزهور والبحيرات، فراح يرسمها وصارت محط اهتمامه وعرفها على أنها منحنى ترسمه النقطة المتحركة ذات مسافة ثابتة مع نقطة ثابتة أخرى، المصريون والإغريق شغلتهم مساحة ذلك الشكل اللطيف الخالي من الزوايا، الزوايا التي تخفتُ فيها بقع الضوء، وتتكون بالتقائها أوجه متعددة للأشكال كما المربع أو المستطيل أو المثلث، على عكس الدائرة الجلية بوجهها الواحد، وكانت البدء الأول لاكتشاف العجلة والتروس التي لولاها ما طارت طائرة ولا سارت عربة ولا دارت ساقية، هي قلب كل آلة ونبض كل محرك اخترعه الإنسان، جاء أرخميدس يوماً وحاول أن يغير من شكلها الحاني والحازم، ويغير من دورانها المتوقد في عقل البشر، على أن يعطي مساحتها وما تملك بنفس الأبعاد والقياسات للمربع فما استطاع وفشل ما عرف بنظرية (تربيع الدائرة)، وبقت وهاجة في حقيقتها وسطوعها، في سماء الأديان أعطوها هالة قدسية ونعتوها بالكمال المثالي ميزةً لها عن باقي الأشكال الأخرى، وما أحسبهم اعتقدوا بقداستها إلا لأن لها الفضل الأول في مجاراة سر الحياة وتداول أيامها، فقد أوقعت بنفسها في بصيرة الإنسان قبل بصره، عرفها يعقوب في ماء عينيه المحفور على وجناته حزناً، حتى إذا دارت الريح بقميص يوسف انجلى بياضهما، وعرفها قلب أم موسى الفارغ على وليدٍ في المهد، دارت عينيها بدورانه في اليم وفي قصر فرعون دورةً كان منتهاها حضنها فقرت وأنست، وفي ديار أيوب التي دار بها نزيل البلاء فأودعها السقم والفقر والموت، فطالت بها السنين ثم عادت لها الأيام مستبشرة، والذي هاجر من بلدته في قطعٍ من الليل تتخطف خطاه آثار التراب، متواريًا في الغار بجنح حمامةٍ وخيط عنكبوت، وما لبثت الأيام أن أعادت له عورايها فدخلها فاتحاً فتحاً مبيناً، تلك الدائرة تدور بالوعود البيضاء والوعود السوداء فكانت تحوم حول قابيل وهو طريد من ديار أبيه تائهاً في الجبال يبوء بإثم أخيه، وحامت حول ابن آكلة الأكباد حتى ألقته بوعده الأسود في مزبلة من مزابل الشام، وبعوضة دخلت من منخري النمرود وألقت بوعدها في أمِّ رأسه تطن ليلاً نهاراً حتى مات.

تتسع الحلقة في دوائر الأيام وتضيق، دائرة الفلك الواسعة تجول بالكون في الفضاء ولن تتوقف عن دورتها حولك في الكلمة والنظرة والظن الأسود، تنساها أنت وتحصيها الأيام لتداولها بين الناس.

هي الأيام تجري في أعنتها
فاصبر فليس لها شأنٌ على حالِ
تريكَ يوماً خسيس القوم ترفعه
إلى السماء ويوماً تنزل العالي

يوماً ما كان في السجن شاب يصرخ ليلاً ونهاراً إنني بريء فلا تقتلوني ظلماً، كان يستغيث بسجانيه ولا أحد يستمع إليه، إلى أن جاء أحد الحراس رق له قلبه، قال له الشاب: أما أمر الحاكم فقد وقع ومالي إلا أن أدعو ربي حتى أرى أمره في نفسي، ولكن لي طلب وحيد، قال وما طلبك؟ قال أن أزور أهلي وأودعهم قبل ليلة موتي وإني والله أعاهدك أن أعود ولا أحد يجترئ على أمري، فوافق الحارس وخرج الشاب من السجن، في تلك الليلة عزم الحاكم أن يتفقد السجن، فخاف الحارس على نفسه، ماذا لو مر الحاكم على زنزانة الشاب وهي فارغة، خرج الحارس إلى الشارع مسرعاً لا تملكه خطواته واتجه لأحد أصحابه وقال له: أطلبك يا صديق عمري إلا ما فرجتَ عني، قال: قل ما ضيقتك والله إني أنفسها إن استطعت ولا أتوانى، قال الشاب الذي أحرسه خرج من السجن بأمري طلب مني أن يزور أهله قبل موته فأشفقت على حاله وغداً قصاصه وإني لا أعرف بيته ولا سبيل لذلك إلا أنت تأتي وتبيت في زنزانته فإن نادى الحاكم باسمه فأجبه وكفى، وأعدك ألا يمسك سوء، خاطر صديقه بنفسه وذهب ليفك ضيق الحارس ولبس ملابس الشاب السجين وجلس بزنزانته، جاء الحاكم ونادى باسمه فانتصب واقفاً وأجاب، تعجب الحاكم وقال ما هذه بسنحة من سيموت غداً مرتاح القلب مطمئن البال، يبدو أنه قد أوغل بالناس جرماً حتى مات قلبه خذوه وأوقعوا به حكم القصاص اليوم، صرخ صرخة مدوية مظلوم بريء استغاث بالسياف وأخبره قصته مع الحارس، فعجب السياف لذلك وقال: لعل ما تقول صحيح ولكن ما أملك في موضعي هذا إلا سيفي ونفسي، إن أمسكتُ أحدهما هلك الآخر، ولكن لي سؤال هل لك ذنب كبير حتى يوقعك الله شر وقعة؟ قال: كنت في أيام الصبا أسبح في النهر، ورأيتُ ولداً سميناً يغرق فذهبتُ إليه ومددتُ يدي وما كاد أن يمسك يدي ليخرج أوقعته لأضحك عليه ثم أمد يدي وأخرجه ثم أوقعه وهكذا وأنا أضحك على حاله حتى غرق الصبي ومات مضت أربعون عاماً ولم يطلع أحد على أمري، قال له السياف: إذن جئتَ إلى أجلك ماشياً على قدميك تضحك عليك الأيام كما ضحكت على الصبي حتى الموت.


error: المحتوي محمي