جاء رجل إلى أمير المؤمنين (ع)، فقال: “يا أمير المؤمنين، إني قد حرمت الصلاة بالليل، فقال (ع): أنت رجل قد قيدتك ذنوبك”، (الكافي ج ٣ ص ٤٥٠).
التفحص والبحث عن مسار العلاقة بالله تعالى قوة وضعف هو طريق الاستقامة والورع، فحالة الأنس بذكر الله تعالى ومحبة الأجواء العبادية والانجذاب إلى تلاوة القرآن الكريم يقظة روحية متقدة وصبغة إيمانية، وأما ذلك الانقباض والامتعاض والتلكع والتسويف عن أداء الطاعات والتثاقل عنها يعطي مؤشرًا على وجود خلل معين، هناك انتكاسة روحية ناجمة عن ارتكاب الذنوب وعدم محو آثارها عن طريق التوبة والندم والبكاء على النفس.
والمؤمن لا يجد حظوظه في المتع الدنيوية لوحدها ويعدها الرزق الذي يطلبه من ربه ويتوخاه، إذ الرزق المعنوي هو ذلك التوفيق الذي يناله من رب العالمين بالتسديد لأداء الواجبات والطمأنينة والشوق لذكر الله تعالى والتهجد، ومتى ما وجد الحرمان وفقدان نفسه عن تلاوة كتاب الله تعالى وخلو اسمه من سجل المتعبدين ومصلي الليل خاف على نفسه وانتفضت قواه للبحث عن الأسباب، فإنه يرى الوضع الصحيح لعلاقته بربه حب الأجواء الروحية ومناجاة المحبوب والمنعم، وينطلق في تصحيح علاقته بربه سبحانه بالتخلص من آثار المعصية والمحرم الذي يرتكبه، حتى يحظى بحبل الوصال مجددًا ويتلقى النفحة الإلهية بالتوفيق لما يتحراه من الوقوف بين يديه عز وجل في محراب العبادة حينما يأوي الناس إلى مضاجعهم وهو يهرع إلى لذته المعنوية ومسيره نحو القرب الإلهي.
ارتكاب الذنب له انعكاسه على روحية العاصي، إذ يظلم قلبه من أنوار الهداية ويستوطنه الميل إلى الشهوات، وتلك الحالة المظلمة التي تستعد فيها النفس للاستجابة لداعي المعصية بلا ممانعة ضمير يؤنبها ويلومها على المخالفة تعد انتكاسة وسقوطًا في وحل الشهوات، وبينما يقوى الارتباط بالإغراءات هناك حالة من الضعف والانصراف عن الأجواء الروحية، مما يؤثر على علاقته بربه وإقباله على العبادة والمناجاة وفعل الخيرات، فالمضامين العالية للعبادة كالأنس بذكر الله وتحصيل اليقظة الروحية شرطها حضور القلب وتنقله بين العظات والعبر القرآنية، والمعصية تسبب انتكاسة للقلب فينشغل بخيال الوهم بالمثيرات والإغراءات ولا يفارق ذهنه تصور لذاتها، وهذا الانصراف نحو الشهوات يحجب الفكر عن النظر في عواقب الأمور والاستعداد ليوم الحساب بمحاسبة النفس والتوبة، ويتبلد وجدانه تجاه محراب العبادة فتختفي تدريجيًا حالة الانجذاب والشوق إلى محالفة المناجاة و الوقوف بين يديه عز وجل، فهذه المعاصي المتتالية تصد العبد عن المحافظة على الواجبات بصورتها الكمالية والالتزام بشرائطها وآدابها، فضلًا عن الإقبال الطوعي على تلاوة القرآن الكريم لينير فكره ووجدانه بتعاليمه، أو يبقى الترقب والانتظار لحلول سواد الليل حتى يحييه بصلاة الليل ومناجاة الرب الجليل، باثًا شكواه من نفس أمارة بالسوء تزين له المعصية وتستحثه الخطى نحوها، ولكن أنى له وهذا التوفيق وقد سلبته السيئات كل تلهف وترقب لإشراقات الروح.
هناك من يتساءل عن سر هذا التردي في وحل المخالفات، فلم تعد عنده تلك الحساسية ووخزة الضمير عند ارتكاب الذنب، وما عاد يبالي بفوات النفحات الربانية عليه فيغفل عن تلاوة القرآن الكريم لأيام وأيام، وقد اعتاد إطلاق بصره نحو التطلع إلى الحرمات والنظر إلى الأجنبية، وأفلت عنان لسانه ليجرح ويتطاول على أعراض الآخرين ولا يبالي بالغيبة، واستطال أمره السيئ إلى اسوداد القلب وقطيعة بعض الأرحام والأصدقاء، خطان يدلان على تخبط وانتكاسة جنبته نور الهداية والحق وأخذته نحو ضفة الخطايا والاسترسال في إتيانها.
حالة الحرمان من فعل الخيرات والطاعات التي يرى المؤمنين يأتونها وهو محروم منها، يشعر وكأن قيودًا تكبله وإن استشعر الحنين في بعض الأحيان ، كما حدث مع السائل لأمير المؤمنين عن سر حرمانه من تهجد الليل مع وجود الرغبة عنده، فأخبره (ع) بأنها الذنوب تمنعه من بلوغ مقام المناجاة والبكاء من خشية الله تعالى، وآه من الحرمان من الأنس والشوق لذكر الله تعالى بسبب جنايته على نفسه.