السر فيمن رأى

يحكى أن معلمًا وضع نقطةً سوداءَ على صفحةٍ بيضاءَ ثم سألَ طلابَ الصف ماذا يرون؟ أجاب الطلابُ كلهم بأنهم يرونَ نقطةً سوداء وراحوا يسهبونَ في شرحِ خواصها وموقعهَا على الورقة. فقال لهم المدرس: عجبًا لكم! لم تلحظوا الصفحةَ البيضاءَ الكبيرة ولكنكم لاحظتم النقطةَ السوداءَ الصغيرة. هل كان سيتغير جواب الطلابِ لو رسم المعلمُ نقطةً بغير اللونِ الأسود؟ أم هي شدة الافتراقِ بين الأسود والأبيض جعلت النقطةَ تشد الناظرَ بقوة إلى سوادها؟

هكذا هي حياتنا حين نقيم تغير السلوكيات والظواهر من حولنا، إما نراها نقطةً صغيرةً يمكنها أن تكبر ويعم السواد، أو نراها كما كنا نلهو صغارًا، في صفوفِ المدرسة بين الحصص قبل حضور المعلم، إذ كنا نرسم خطوطًا ونقاطًا بيضاءَ في اللوحِ الأسود ونرى النقطةَ البيضاءَ الصغيرةَ أكبرَ وأجملَ من اللوحِ الأسود الكبير كله، ينزعج المعلمُ قليلًا ويطلب منا مسحَ اللوح الأسود ولكن شيئًا من اللونِ الأبيض يستعصي على الماسح، ويبقى مثل النورِ ينبعث من خلفِ الظلام!

لا يفرحني كثيرًا من يتذكر الماضي بأنه كان الورقةَ البيضاء، وأنا ممن يرى أن الآثامَ والشرورَ والنقاءَ والخير كان ولا يزال مبثوثًا في كلِّ الدهورِ والعصور. وأنا ممن يرون أن الحاضرَ فيه من الصفاءِ والصفحاتِ البيضاء أكثرَ من الماضي، ولكن “عين السخط والغيرة تبدي المساويا”، أو هي ربما من باب كبرنا وكبرت الهموم! الواقع يقول إن الحياةَ اليوم أكثر رخاءً ومشاركةً بين الناس، إذ لم يكن الأغنياء في الماضي الذي عشناه يجوبونَ الطرقات يحملونَ الأجربةَ على ظهورهم وفيها طعام الفقراء، وربما باتَ الفقير جائعًا وجاره متخم! والواقع يقول إن إناءَ اليومَ مفعمٌ بتحدياتِ العلم والاقتصاد والدين ومشاكل المجتمع بكل أنواعها، ولم تسلب هذه التحديات صبايا وصبيان اليوم القدرةَ على عبورِ مضائقها!

في كل زمنٍ سيكون هناك نقاط سوداء فوق صفحة الدنيا الكبيرة البيضاء منذ زمنِ الأنبياء وحتى ينتهي الزمن، وما دام الإنسان لن يحتفي بزوالها قريبًا، من الأجدى أن يبتهجَ أن الحياة وسلوكياتِ الجيل الحاضر في مجملها ناصعةَ البياض. سوف ترى أرواحكم أبناءكم عندما ترحلونَ مثل الأشجار التي انحسر عنها الظل وبرزت نحو الشمس مباشرةً تستقوي بحرارتها، يحكون لأقرانهم كيف هم أفضل من أبنائهم، هذا شأن كل من عبر الحياة!


error: المحتوي محمي