الطائر والشقراء

في الصفوف الدراسية تكون شخصياتنا الصغيرة ملحقاً تابعاً للمدرس والمدرسة وأحياناً تابعةً لمن سبقنا من الطلابِ ولو بصفٍّ واحد. ننظر لبعض المدرسين والمدرسات على أنهم قطعة من جمالِ الروح والشكلِ، وفي بعض الأحيان نرسم خطانا فوق خطاهم. وأما من سبقونا بصفٍّ واحد فنراهم كباراً في العمر والفكر، ويعرفون أشياء لا نعرفها في الحساب والعلوم وفي دروبِ الحياة، وفي كل يوم نعد الأيام لنكون نحنُ من ينظر إلينا من هم دوننا من الطلابِ كما كنا ننظر لمن فوقنا.

عندما كنا في الصفوف الأولى من الجامعة كان قدوتنا في كل شيء هم من سبقونا، وعندما تكون في الغربة تحتاج إليهم وإلى معرفتهم أكثر مما تكون في أرضِ الوطن. كان جزءًا من الالتحاق بشخصيتهم تقليدهم فيما يضعون على حائطِ الحجرةِ من ملصقاتٍ وصور ولو لم تكن ذاتَ معنى أو قيمة سوى الشكل وأنها شيء من طيشِ مرحلةِ الشباب.

اشتريت ملصقاتٍ كثيرة وعلّقتها على الحائطِ الخشبي، وبقي واحد منها في ذاكرتي منذ شهر يناير عام 1980م، وكان في الملصق صورةُ صبيةٍ صغيرةٍ شقراء الشعر تمسك بطائرٍ يوشك أن يفلت من يدها ومكتوبٌ باللغةِ الإنجليزية تحت الصورة ما معناه “إذا أحببتَ شيئاً فأطلقه فإن عادَ إليك فهو لك، وإن لم يعد فما كنت تملكه أبداً”.

الآن وبعد عشرات السنين ندرك أن كثيراً من العلاقاتِ والصداقات التي كنا نظنها ضاربةَ الجذور أفلتت ولم تعد، وكثيرٌ منها أفلت ولكنه عاد وكأنه عاد إلى حضن دافئ. هكذا نحن مع محيطنا في دائرتهِ الصغرى مع أبنائنا وأزواجنا والدائرة الكبرى مع أصدقائنا مخلوقاتٌ في “أرواح مجندة” ومهما أجبرناهَا على الحب والعلاقة إن لم تكن الروح تألف فغير مكتبوب لتلك العلاقةِ أن تدوم.

مع أننا لن نستطيعَ إحكام قبضتنَا على من نحب فهذا سوف يرعبهم ويخنق رغبتهم في البقاء ويجبرهم على الطيران أسرع مما نحب، ويعجل من قدوم اللحظة التي تبرد فيها وتنطفئ كل المشاعر والتي عندها نشعر بأن تلك الأرواح ” ما تناكرَ منها اختلف”، ولكن ليس العلاقات والحب بكل أشكالها أسمالٌ أو ملابس نرميها متى ما خلقت وتغيرت ألوانها، بل أرواحٌ وأجسادٌ نغذيها يوماً بعد يوم رجاء ألا تأتي تلك اللحظة التي يفلت منها الطائر من أيدينا ولا يعود.

بعد هذه السنين تحايا قريبة لكل من أطلقنا سراحهم وعادوا، وتحايا بعيدة لمن أطلقنا سراحهم ولم يعودوا ولم يكونوا لنا ذات يوم!


error: المحتوي محمي