عند منتصف الليل والعائلة في سبات عميق تام، بعد يوم إجازة من التعب والسهر، تسللتُ خفية من المنزل مع حقيبة محملة بما غلا ثمنه وخف وزنه، وانطلقت بالسيارة مسرعة إلى المطار بعد أن حجزت التذكرة عن طريق الإنترنت، وصلتُ المطار وقلبي يكاد يقفز من موقعه خوفًا من العائلة إذا كان أحد منهم انتبه إلى حركتي أو فقدي!!
أخيرًا سأتجه إلى بلاد الحريات والدُمقراطية والجمال، بعيدًا عن عقد المجتمع و تحكم وتوصيات الأهل المتزمتة والمتكررة والمملة إلى حد الغثيان!!، كل شيء عيبٌ وحرام، حسنًا ليضربوا رؤوسهم عرض الحائط!!، أنا في السابعة عشر من العمر، ومن حقي التمتع بالحياة والحرية التي تلائم تطلعاتي المستقبلية!!
أٌغلق باب الطائرة، أخيرًا تنفستُ الصعداء، سأنام طوال الرحلة بعد أن اطمأنتْ نفسي!!
منذ سنة وأنا أقرأ وأخطط للهجرة لبلاد الأحلام وبلاد العم سام، وقد ادخرتُ الكثير من المال من مصروفي الشهري، وما اطلبه من الوالد بزيادة مصروفي بحجة الشراء وغلاء المشتريات!!
وللحق لم يكن والدي يقصر أو والدتي، فقط كان يزعجني منهما توصيتهما: هذا عيب وهذا حرام، لا تتأخري في الخروج، غطي شعركِ، تحجبي جيدًا، وووو!!
وكم من المرات اخرج بنتائج خاسرة معهما أثناء المناقشة، “مع إن المناقشة تكون هادئة محترمة بدون صراخٌ علّي، لكنها لا تلائم تطلعاتي وأحلامي”!!
وقبل أسبوع من الحرية المنشودة حجزتُ التذكرة، وثروة صغيرة لا بأس بها.
كانت الساعة الواحدة والنصف صباحًا عندما أعلنت المضيفة ربط الأحزمة جيدًا، وإرشادات السلامة، استعدادًا للإقلاع.
منذ شهر لم أنم جيدًا من القلق والخوف من اكتشاف خطتي، حتى بدا ذلك في ملامحي وبشرتي، وأخذت أمي بالتساؤل إذا كنتُ لا سمح الله مريضة، وعرضتني على دكتور وتحاليل مخبرية واشعة، وكلها سليمة، لكن أمي لم تطمئن وأصبحت تلمح عن المسائل العاطفية “إذا كان قلبي مشغولًا بأحٍد ما”، حتى أكدتُ لها لن يكون هذا بحساباتي حاليًا، إني أفكر في مستقبلي العلمي!!
وأخيرًا غفوتُ لمدة ساعتين لم أشعر بقلٍق داخلي، انتبهتُ على صوت المضيفة: بإحضار الأكل، وبدأتُ في الأكل بشراهة من شدة الجوع!!
ولم أنتبه للجالس بجانبي إلا بعد أن أكلتُ!!
بدأتُ في كتابة خطاب اللجوء السياسي لبلاد العم سام، ووضعت البهارات المفلفلة عليه، استعدادًا لاستقبالي وقبولي!!
وعند الوصول وفي المطار قدمتُ خطابي، و تم حجزي في غرفة، وتمت الأسئلة تحاصرني من كل الجهات الأمنية، وأنا أشرح لهم أن المشكلة عائلية فقط، عن تعامل والدّاي معي بالقسوة والشدة إلى درجة الخنق وعدم السماح لي بالتنفس!!!
وهناك تمتعتُ بحريتي المطلوبة، سَجلت في مدرسة لمواصلة تعليمي، اشتغلتُ نادلة في مطعم لزيادة دخلي بعد نهاية الدوام المدرسي، حيثُ إن الثروة الصغيرة التي معي تُستهلك في الإيجار والأكل والترفيه، كونتُ لي صداقة طيبة من الجنسين، نخرج ونمارس الهوايات أيام العطل.
لكن أصبحتُ وأمسيتُ أفكر في أمي وأبي وإخوتي، مضت ستة أشهر لم أسمع عنهما شيئًا، لا اتصال ولا رسالة واتساب، وعندما حاولتُ إرسال رسالة لهما كنتُ خارج الخدمة بالنسبة لهما!!
أرسلتُ رسالة بريد إلكتروني إلى أخي اطمئنه علّي، وأسأله عن أحوالهم وأخبارهم.
بعد أسبوعين جاءت منه رسالة نعي لوالدي الذي لم يحتمل صدمة هروبي، ووقع مغشيًا عليه مشلولًا، ومنذ أسبوعين اختاره الله، وأمي لزمتْ السرير من ارتفاع الضغط لديها وما زالت في حالة ذهول وتساؤل؟؟ ماذا كان ينقصكِ هنا؟؟ الحب والعائلة السعيدة والاهتمام والسفر في الإجازات والمال؟؟ وأنا أتساءل معهم فعلًا، ماذا كان ينقصك؟؟
اكتئبتُ وحزنتُ من رسالته وبكيتُ كثيرًا، حتى اعتل جسمي من قلة الغذاء وضيق المعيشة، والدراسة والعمل، وعدم الاعتناء بي من قبل أحدٌ ما!!
هنا كلٌ مسؤولٌ عن نفسه وعن طعامه وتدبير حاله!! ماذا جنيتُ على نفسي وعلى والدّاي؟؟ هل هذه الحياة التي رغبتُ فيها، والحرية التي هربتُ لأجلها؟؟ لقد كنتُ طفلةٌ مدللة، رغباتِ مُلباة في كل شيء تقريبًا!!
هل ستقبلني أمي من جديد، أم رجوعي سيُذكرها بمأساة والدي، وإخوتي، وعائلتي الكبيرة؟؟ أيُ شيطانٌ تلبسني حتى سيطرتْ علّيَّ فكرة الهروب والحرية، لم أدرك مصيبة فعلتي وأثرها الاجتماعي والنفسي على عائلتي الصغيرة.
هل أرجع مكسورة الخاطر نادمة أطلب السماح والمغفرة من عائلتي وخصوصًا أمي!!
تدهورتْ صحتي أكثر وأكثر، بعد أسبوعين من رسالة أخي، وشظف المعيشة الذي كان يَفتُك بي.
حتى حُملت في صندوق خشبي راجعة إلى عائلتي جسدًا بلا روح!!، بعد أن بعثتُ رسالة بريد إلكتروني قبل يوم من وفاتي إلى سفارة وطني بأن تتكفل بنقلي، وأُدفن هناك إلى جانب أبي!!
قصة قصيرة