الهوية الضائعة

من الطبيعي أن يكون هناك اختلاف ثقافي بين أفراد المجتمعات عبر العصور، قد يزيد أو يقل تبعًا للدين، والبيئة، والتعليم، والموروث، والعادات والتقاليد فضلًا عن تفاوت الملكات العقلية الفطرية.

إن استيعاب لغة الاختلاف بأبعادها، وفهمها بموضوعية يحتاج إلى طهارة قلب، ورجاحة عقل، ومصداقية في التقييم، وهذه الأمور قد تكون متوفرة في مجموعة، ومتوسطة الوجود في مجموعة ثانية، ومنعدمة عند فئة أخرى.

في الآونة الأخيرة أصبح القلم أو المقطع الصوتي أو المرئي (وا عجبي) علاجًا لجميع العلل والأمراض التي تتعلق بالروح والتي تتعلق بالبدن، وثقافة القلم والصوت تلك بأبعادها – الشخصية وغير الشخصية – وما تحمله من أمانٍ، وأحلام، ورؤى، وطموح تنصب على كل العلوم، والخبرات، والثقافات بمختلف التخصصات، حتى لو كان الكاتب، أو المتحدث بعيدًا بعد السماء عن الأرض عما يكتب، أو يتحدث.

قراءة التجارة العالمية، واستشراف الحركة الاقتصادية الدولية، وتوقّع حركة العقار المحلي والدولي، وتوقّع مدى تطور الطب النووي أصبحت أمورًا سهلة للغاية عند البعض من الذين يكتبون أو يتحدثون في كل العلوم والمعارف والأحداث – بقصد أو دونه – من حيث لا يعلمون.

لم أتعجب حين علمت أن الحلاق في بعض مناطق جمهورية مصر العربية يزاول مهنة التمريض الصحي بأبعادها، ويعطي الإبر للمصابين ببعض الأمراض الخطيرة، ويطهّر الأطفال حتى الآن دون شهادة علمية أو دراسة، بل ويكرَّم ويقدَّر ويلقى صدى كبيرًا على ذلك في مجتمعه.

حين يفقد المجتمع هويته يصبح ألعوبة بيد كل أحد دون استثناء، وهذا ما أجده الآن – ولو جزئيًا – في شرائح متعددة في مجتمعنا المعاصر.

حين تود أن تبني لنفسك مكانة اجتماعية خاصة، وتبلغ السماء بسرعةٍ كالدخان؛ ما عليك سوى كتابة مقال، أو تسجيل مقطع صوتي أو مرئي تنتقد فيه فئة من الناس وتحمّلهم مسؤولية أمر ما دون دليل أو استقصاء أو بيّنة.

اهرف بما لا تعرف، وغنِّ خارج السرب، واعزف ألحان أناشيدك كيف تشاء مادمت تقذف هذا وتطعن ذاك، ارمِ تجّار التراب تارة، ورجال الدين تارة، ورواد العمل الخيري الاجتماعي، والوجهاء، ورجال الأعمال، والمبدعين، والفنانين وغيرهم، وستبلغ شهرتك عنان السماء قبل أن يرتد إليك طرفك، حتى لو لم تكن صادقًا في حرف واحد من حروف كلماتك.

ينتشر الذم والقبح بين البعض انتشار النار في الهشيم لأسباب متعددة؛ منها أمراض قلبية، ومنها أمراض ثقافية وتربوية، ومنها أمراض سلوكية، وقد تكون البراءة المفرطة البالغة حد السذاجة سببًا رئيسًا، ولو كان عفو الخاطر.

عقول بسيطة لا تملك أدنى مستويات الاستقراء، عقول لا يتجاوز مداها نظرها في الظلام، عقول تسقط أمانيها الجميلة على واقع الناس وتحسبه حقيقة مطلقة مجردة، عقول تحمل مواقف شخصية على أفراد فتضع عيوب الوجود في شرائحهم الاجتماعية، عقول تبرأت أرواحها منها لأنها تحمّلت ما لا تطيق؛ أصبحت تنشر ثقافتها المريضة والمقيتة في المجتمع في لحظات؛ فحتى متى يدوم الصمت؟! ويدوم السبات العميق؟!

من الواجب علينا ألا نكون مجتمعًا ساذجًا يقرأ ولا يعي أو يحلل، أي أنه يجب علينا ألا نكون مجتمعًا بلا هوية عقلية بحيث يعتبر كل القراءات صحيحة، ولابد أن نكون مجتمعًا يؤمن بالتخصصية، والعلم، والدليل، والتجربة، والثقافة الموضوعية فحسب، وما عدا ذلك نعتبره كزبد في بحر. إن أغلى ما يملك البشر هو العقل فإن أعملوه بلغوا قمة المجد، وإن أهملوه ضاعوا وأضاعوا.

إن أخطر الأمراض الاجتماعية المعاصرة هو الغزو الفكري الذي يمارسه أنصاف الكتّاب وأرباع المثقفين على عوام الناس ممن تحركهم التيارات المائية كالقّش.

متى نقف وقفة إجلال للعلماء، والكتّاب الموضوعيين، والمبدعين المختصين ونأخذ منهم العلم، والمعرفة، والثقافة، والحقائق المجردة، ونضع أنصاف الكتّاب وأرباعهم في مكانهم اللائق بهم ليتّزنوا في كتاباتهم، ويكونوا منصفين لأنفسهم قبل الآخرين.

أصبح الحلّاق طبيباً، والفلّاح مدرساً، والبقّال مهندساً فضاع جيل قد سبق، وأخشى أن يلحقه جيل المستقبل.

نحن بحاجة لغربلة عقولنا أولًا، ثم لغربلة ثقافاتنا، فضلًا عن غربلة الكتّاب والمثقفين.

نحن مع ثقافة الفرز للنفوس، والعلوم والإبداعات، ومع نقدها نقدًا بناءً وفق الأسس العلمية المنطقية الموضوعية بعيدًا عن الشخصنة، والرؤى، وهوى النفس، وبعيدًا عن نشر ثقافة الأماني الشخصية كحقائق مطلقة. نحن أسمى من أن نكون مجتمعًا بلا هوية أو بهوية ضائعة.


error: المحتوي محمي