في لحظات ما نشعر بالانكسار والحنين إلى ما يدفئ مشاعرنا من رياح الأيام العاتية، فمهما أوتي المرء من قوة نفسية يستطيع معها مواجهة التحديّات والأزمات التي تصادفه، فإن هذه القوة لا تأتي من فراغ بل هي نتيجة قناعات بأفكار قيمة عن الثقة بالنفس والاعتماد على القدرات الخاصة بعد الاتكال على الله تعالى، ومبني كذلك على تفكير هادئ وعزيمة وإصرار على بلوغ الأهداف والغايات، ولكن هذه البنية المتينة تتعرض لاهتزازات تعصف بها وتجتاحها بقوة، والصمود أمامها والثبات يعززه كذلك الحضور الفعال لمن نحبهم فيآزروننا ويساندوننا في ساعة الشدة والألم، فالشعور بمحبتهم والجاذبية المتبادلة تعزز روح العمل المثابر، وافتقاد همسهم ونظراتهم الحانية يزيد في الآلام ويشتت الذاكرة، في وقت نكون فيه بأمس الحاجة إلى التماسك وتقدير الموقف والبحث عن حلول وخيارات تخرجنا من عنق الزجاجة.
وبلا شك فإن الذاكرة تختزل تلك الصور الجميلة لذكريات ومواقف مضت قد جمعتنا مع نفوس رائعة، لم نر منها إلا المودة والتعامل الحسن وتجاذب الحديث والنقاش الذي ينضج الفكر ويوجهه نحو القرارات المتأنية.
لا يمكن لظروف خارجة عن إرادة الجميع قد فرقت الأجساد أن تفك تلك اللحمة والشعور بطيفهم أنى حللنا، بل عبق أنفاسهم نشمه مع كل موقف له ذكرى مشابهة، ويحن القلب إليهم في كل منعطف نحتاج فيه إلى استماع همس حكيم وعون ثقة صادق، وكأننا طفل صغير يفزع إلى صندوق ألعابه ليانس بعالمه الصغير ويدفع الوحشة عن نفسه.
وحينما تبعثرنا الأيام وتصدمنا بما لا نتوقعه ونخاف حينها من السقوط، نبحث في صندوق ذكرياتنا الدافئة عما نتدثر به ويعيد لنا هدوءنا وابتسامتنا، ويبعد عنا شبح الهواجس وبعبع الإحباط، فهذه الأوقات الحرجة بعد الصدمات والمشاكل والهموم اللاحقة منها هي مفترق طرق ما بين نهوض مجدد أو استنزاف طاقتنا شيئًا فشيء حتى يلحقنا الوهن والشعور بالعجز عن تحقيق أي هدف بسيط.
لا غنى عن صندوق المشاعر العاطفية الذي يعيد توهج نفوسنا بالإرادة والتصميم والتخلص من أغلال الارتداد القهقري، ففي لحظات صادمة تخطف منا الشعور بالأمان والثقة بما أعددنا من حسابات وقمنا به من خطوات، ولكن الزمن الصعب في إحدى جولاته المجلجلة يطل بوجه مخيف وبيده يبعثر نفوسنا، فنشعر كمن يسقط من مكان عالٍ نحو الهاوية ونفقد الإحساس بكل ما هو جميل من حولنا، لكننا ننزوي طلبا لهدوء النفس لا للوقوع تحت اجترار الآلام وأسر الأفكار السلبية والحكم المتسرع المتشائم على مستقبلنا، بل لإلقاء نظرة على صندوق الذكريات نستعيد فيها ألق أرواح طاهرة لم تغادر طيفنا، تخفف عنا تلك الطلة ثقل الهموم وتسحب سموم الخيبة التي تسللت وتغلغلت بين جوانحنا، وتعيد لنا الثقة بأنفسنا وبقدرتنا على الخروج من ركام الصدمات وقد نفضنا غبار البعثرة والتعاجز، ونستعيد زمام المبادرة والنهوض مجددًا وتحمُّل الألم ومواجهة الصعاب.