جوهرةٌ من عقود

في أغلبِ الحالاتِ يعطينا اللهُ رقماً من العمرِ في خانتين؛ بين الواحدِ والمائة، ومن يُعطى رقماً من ثلاثِ خاناتٍ فقد يكون ميتاً بين الأحياء. وفي كل هذهِ العقود من السنين تتراوحُ أعمالنا مدفوعةً بالعقلِ مرةً وبالعاطفةِ والمشاعرِ مرات. نحن هكذا منذُ الولادةِ حتى الموت، وإن شككتَ فانظر من يولد ومن يحتضر، فسوف ترى دموعَ الخوفِ والعاطفة تملأ أحداقَ عيونهم.

في كل مرةٍ نستخدم فيها عقلنا أو عواطفنا تسجل فيها ذاكرتنا ردةَ الفعلِ ونتائجه علينا وعلى سلامتنا، وعندما نعيشُ عمراً من عشراتِ السنين يكون لدينا قاعدة بياناتٍ من الأفعالِ ورداتِ الأفعال، ولكنها في الغالبِ لا تحمينا ولا تحصننا من ارتكابِ المزيد من الجهلِ والحماقات، فلا يكون ابن الستين أكثر رجاحةً في العقلِ والحكمةِ من ابن العشرين.

نحن في الأصلِ لو استخدمنا عقولنا فلن نحتاج أن نجمعَ هذه البيانات التي جمعها ونقّحهَا ونشرها غيرنا، وتحمّل نتائجها، وليس علينا إلا قراءتها في واقعِ الحياة. هذه البيانات في المستشفياتِ وفي السجونِ وفي المقابر وحتى في المدارس والمساجد والأسواق والطرقات، وفي صفحاتِ كتبِ التاريخ. كميةٌ من المشاهدِ والمناظر نراها كل حينٍ وكأننا فوقَ خشبةِ مسرح، لا يكاد أن ينتهي الممثلون الذين هم غيرنا من عرضهم المفرح أو المبكي إلا وعدنا لسجايانَا وطباعنا في قليلٍ من العقلِ وكثيرٍ من العاطفة.

حدودٌ رقيقةٌ بين الشجاعةِ والتهور، وحدودٌ رفيعةٌ بين المجاملةِ والوقاحة، وبين الشدةِ واللين، وعندما تختلط الطبيعةُ بين المعقولِ واللامعقول، علينا معرفة متى نتراجع ومتى نُقدم، كل هذا حتى لا تمر عقودُ العمرِ ونحن في نقطةِ الصفرِ من العاطفةِ والعقل. بعد كل هذه العقود من السنين وعندما نتصفح دفاترَ الأفعالِ القديمة، يأتي العقلُ ويقول: ربما من الأنفعِ لو لم أكن فعلتُ هذا بل فعلتُ ذاك، ولكن الأيام لن تسمحَ لنا بالعودةِ فيها أبداً.

في الغابة، متى ما واجهنا أسداً، فالخوف يدفعنا للركضِ والهرب وحينها نكونُ الطعامَ الذي كان يبحث عنه، ولكن العقلَ ينصحنا بالوقوفِ وأن نجعلَ أحجامنَا تبدو أكبر، حتى لو هاجَ الأسدُ لا ندير له ظهرنا! أليس هذا هو واقع الحياة؟ أن تستثار عواطفنا ومخاوفنا وتشل عقولنا، وربما كانت الاستدارةُ عن مواجهة الإنسانِ أكثرَ رجاحةً وحكمة! لا يجب أن تكونَ الحياةُ غابةً والناس أسوداً، بل هي رحلةٌ ونزهةٌ رائعةٌ في البراري والسهول متى ما عرفنا الهضابَ والوديانَ والمخاطرَ التي دونها غيرنا ورسمَ خرائطَ المشي فيها، وأين نجا وأينَ هلك!

نزوعُ العاطفةِ للتمردِ على العقل، وخنقُ العاطفةِ في قوةِ العقلِ يجعل منا قاعدةَ بياناتٍ لا تنفعنا، ويرويها الغرباءُ في صفحاتِ طرائفِ الجنون، يستظرفونهَا ويستمتعون بها، في حين نتوجع ونتأذىْ نحن بنتائجها، فلنَحرمْ العاطفةَ الجموحةَ من ابتسامةِ الرضا أحياناً كثيرة، والعقلَ من زهوِ الإعجابِ والاستحسانِ مرةً واحدة، ثم نَسلم!


error: المحتوي محمي