استنشقوا نسائم رجب

ورد عن الرسول (ص): “إن رجب شهر الاستغفار لأمتي”،(بحار الأنوار ج 94 ص 38).

في مارثون ننتقل فيه من مرحلة إلى أخرى يقل فيه مخزون طاقتنا وتضعف قوانا، نحتاج إلى محطة توقف واستعادة الأنفاس نسترجع فيها نشاطنا وتهدأ أنفسنا المتعبة؛ لننطلق بمرحلة أخرى بعد التخفف من التعب واستعادة الحيوية والفاعلية، وهكذا نحن في الحياة نحتاج في علاقتنا بالخالق (عز وجل) إلى تجديد الباعثية الروحية، واستعادة الحصانة واليقظة تجاه ما يحيط بنا من عوامل الغفلة والانزلاق نحو الخطايا، لا بد أن تمر بمورد تذكير ننطلق بعده متزودين بنفحات الطمأنينة والهمة العالية، وقد نصب لنا المولى الكريم علائم زمنية نتوقف عندها متأملين في أحوالنا ومعيدين لترتيب حساباتنا ومراقبة جوارحنا بدقة.

والبداية التي نتهيأ فيها لموسم عبادي جديد تكون مع شهر حفته الرحمة الإلهية بسعة يضاعف فيه الثواب وتتظافر فيه العوامل المساعدة للرجوع إلى الله تعالى والتخفف من الذنوب والمعايب، وأفضل السبل في هذا الشهر الكريم هي الاستغفار وطلب العون الإلهي للتخلص من ثقل الأوزار، والأمر لا يقتصر فقط على ذنوب لا نتوقف عن العكوف عليها وتجديد العهد بها مع إطلالة شمس يوم جديد، ولكن الأمر يتعلق بمكر شيطاني خفي يتسلل لنا ونحن في غمرة الانشغال بالصلاة والمناجاة، ألا وهو التلوث التدريجي بزخارف الدنيا لدرجة التولع والافتتان بها دون أن ندري، بل ونحسب أنفسنا على أفضل حال من الخير والتقرب من المحبوب وسط غرقنا في لجاجات زينتها، ولكن الاستغفار الحقيقي يشمل حالة عمومية ننتشل فيها أنفسنا من حيرة الدنيا الفاتنة ونتخلص من ملوثاتها، من خلال استعادة حالة التوازن الشاملة لنباهة فكرنا ويقظة أرواحنا المنطلقة لمحاسبة الجوارح، فيورثنا ذلك إخراج النزوات التي تغلغلت في أرواحنا خلسة وفي لحظة غفلة منا، فتنكشف بصائرنا للعلة الخافية من استيحاش من محراب المناجاة الذي تكسو نفوسنا بالنباهة والتأثر حتى نظفر بالبكاء على أنفسنا والندم على ما مضى منا، ويعيد ترتيب دعائم القوة الإيمانية وتدعيمها بفيض الخشية من الله تعالى، منتهزًا فرصة ثمينة لعله يعوّض ما رحل من أيام عاش فيها تحت خبيئة الغفلة.

والخلوة بالنفس متفكرًا ومنصتًا لصوت العقل الواعي هي بداية طريق الاستغفار ويقظة الروح من سباتها، والتأسيس لمرحلة جديدة يعلوها الخوف من الله تعالى بدرجة عالية، والتزوّد بزاد التقوى من خلال قطف ثمار هذا الشهر الكريم بإعداد برنامج روحي وعبادي يعيد له الوجدان الحي الذي يتأثر بالآيات الكريمة ومقاطع المناجاة والأدعية المحذرة من تيه النفس والانزلاق نحو الخطايا، والانفتاح على أبواب الرحمة ومظان إجابة دعاء المنكسر المنيب.

ومن خطوط البداية للاستغفار هو التخلص من أغلال المشاعر السلبية وشرنقات الخصومات التي تخنق سمو أنفسنا، فالأفئدة الممتلئة حقدًا وغلًا لا يمكنها أن تنطلق نحو فيض المغفرة الإلهية، والتي من شرائطها الوقوف بين يدي الجليل بقلوب صافية ونقية من الكراهيات، يكون تسامحهم بابًا لعفوه تعالى.

الإحسان إلى النفس في هذا الشهر يقتضي التزوّد بكل ما يسمو بنا نحو الشفافية والأنس بذكره تعالى، فتتجذر الروح الإيمانية بحق ويعلو جدار الحصانة من ارتكاب الموبقان والأنس بالقبائح.


error: المحتوي محمي