بعد استحداث نظام “الجائزة”، تمّ تكريم الشاعر على قصيدته في شخص “الممدوح” الواحد؛ حيث المدح لأمّة كاملة، ربما لا ينال المادح عليه شيئًا.
المدح الشعري لشخص واحد، وما تبعه من الحصول على “جائزة”، في عملية أشبه ما تكون بمسرحية نمطية متكرّرة، جعلت الدافع الشعري يتّجه ويتركّز لدى الفرد الواحد، تتبعه حالة من الانتشاء، تستغرقه، وتستولي عليه.
لنتبيّن الصورة أولًا: المادح والممدوح؛ الشاعر والأمير، بينهما جمهور مستمع، غالبًا يكون مثقفًا، تلوح “الجائزة” في الأفق، يبدأ الشاعر في تلاوة قصيدته، ينال إعجاب الأمير، وإعجاب الجمهور الحاضر، تأتي “الجائزة”، يستلمها، ثم يمضي، تدون القصيدة في السجلات الرسمية، وفي الذاكرة الجمعية للأمة، تظل الأجيال اللاحقة تتغنى بها.
قصيدة المدح غرضها الحصول على “الجائزة”، دون أن يعي- ليس دائمًا- المادح والممدوح الشكل النّمطي السائر؛ كأن العملية برمّتها مهرجانٌ من القصائد المتشابهة، المبنية على نسق واحد لا يتغيّر بتغيّر القائلين.
المجلس بما يضمّه من جمهور، يقف الطرفان: المادح والممدوح، متواجهين؛ الأول: ينشد قصيدة؛ رغبة في الحصول على “جائزة”، الثاني: ينصت، مستغرقًا في حالة من النشوة التامة، إلى أن تكتمل لديه اللحظة الشعرية بنهاية القصيدة، حينها يأمر للشاعر بالجائزة، لا فرق هنا، بين المدح الصادق وغير الصادق.
الجمهور المتواجد في المجلس ينتشي بنشوة الممدوح، يثني على الشاعر والقصيدة؛ يتجاوز ذاته، يصبح تابعًا للممدوح، يستغرق في اللحظة الشعرية معه، على سبيل التداعي والمشاركة الوجدانية.
سعي قصيدة المدح إلى تمجيد فرد واحد؛ عادة يكون على قمّة الهرم المؤسساتي “ملك – خليفة – أمير وما شابه”، تتوسل في سبيل الوصول إليه بشتّى السّبل؛ لتسلمه إلى حالة من النشوة الطاغية.
الجمهور المستمع، يحصل على نشوة “اللحظة” الشعرية؛ لكونه تابعًا للممدوح، اللحظة الشعرية، تتركّز في فردٍ واحد، سعت إلى تمجيده، وإحلال الكلّ في شخصه؛ يتمثّلٍ في الجالس على قمّة الهرم المؤسّساتي.
في قبالة قصيدة المدح الممجدة للفرد واحد، جاءت قصيدة الهجاء على النقيض تمامًا؛ لتحطيم وزعزعة الصورة المرسومة للفرد الواحد.
قصيدة الهجاء أخذت المنحى التخريبي؛ مما أتاح لها جمهورًا من المستمعين، يضادّ جمهور الممدوح، يتمّ تحويل اللذة والانتشاء في اللحظة الشعرية، من الواحد إلى الكلّ.
المستمع يصل اللحظة الشعرية المصاحبة للقصيدة الهجائية، دون أن يكون مرتبطًا بفرد آخر، لكلّ مستمع لحظته الخاصة، المقترنة بنهاية القصيدة؛ مع الكشف النهائي.
لا يختلف اثنان – عادة – في بلوغ اللحظة ذاتها، بل الجميع يحصل على اللحظة الشعرية الواحدة، لا المتعدّدة.
غالبًا القصيدة تحكي شيئًا واحدًا مكرّرًا، تم سبكه مسبقًا، نجده لدى شعراء سابقين، تبقى لحظة الكشف النهائي، هي المتحكّمة في اللحظة الشعرية.
بعد إلغاء فكرة المدح والهجاء، صارت القصائد تنساب بعيدًا؛ متخّذة أساليب لم يعهد السابقون استعمالها، تحوّلت لحظة الكشف لديها إلى لحظات، لم تعد تقدّم شيئًا واحدًا، بل أشياء مختلفة، تنتظر من يكتشفها.
لعلّ في التحوّل من الطور السماعي إلى الطور القرائي، دفع الشعراء إلى اتّخاذ المنحى المستند على تعدّد اللحظات.
فهم القصيدة يتوقّف على القارئ لا المستمع، ليس كما يحدث سابقًا، أصبح القارئ، يقرأ شعرًا لشاعر بعيد عن عينيه، شاعر لا يعرفه، ليس بينهما اتصال مباشر.
تحوّلت القصيدة من حالة المواجهة المباشرة إلى حالة الانفراد بالقارئ، القارئ يمارس القراءة والسماع، يصل إلى اللحظة الشعرية بذاته.
التوحّد بالقصيدة، جعل القارئ يصطدم بها، يحاول الولوج إلى أعماقها؛ لاستجلاء لحظة الكشف الشعري.
الشعراء باتّخاذهم منحىً مخالفًا لمن سبقهم، واعتمادهم على الكتابة عوضًا عن الإنشاد، وتذرّعهم بضعف القصائد السابقة، أرادوا تحديث القصيدة؛ لمواكبة تغيّرات الزمن.
لا يرغبون في الارتداد إلى الماضي، يهربون منه، يتواجهون مع أنفسهم، أثناء الكتابة، يأخذون في الاعتبار التطور الحادث في الزمن، تجيء أشعارهم مرآة لذواتهم، ومرآة للحياة من حولهم، ربما امتدّت لتكون مرآة للكون برمّته؛ حيث التمازج الكوني الذاتي، في محاولة إسقاط الكون على الذات أثناء الكتابة.
الامتزاج بالكون والتناغم معه، جعل الكتابة أكثر صعوبةً، وأكثر إدهاشًا وإبداعًا.
تقديم المكتشفات الجديدة في ثوب عصري، يبالغ في تقديس الذات، الذّات المنحلّة في الكون المتمازجة بالأشياء، ابتعدت عن المألوف، أهملت الطريقة القديمة، سعت إلى تحويل الخيالي إلى حقيقة واقعية.
القارئ، في خضمّ تحولات الشاعر، لم يعد يصاب بالذهول والاستغراب، أخذ في تلمس النص الجديد، واكتشاف آفاقه، أصبح لكلّ قارئ أسلوبه الخاص.
البحث عن عملية الكشف؛ لإيجاد اللحظة الشعرية، أعادت تشكيل العقل العربي، أخرجته من سلطة الفرد الواحد، باتت هيمنة قصيدة المدح وفكرة “الجائزة” في حكم الإلغاء.
بسبب تجاوز التقاليد الشعرية القديمة، إضافة إلى محاولة امتلاك مفاتيح القصيدة الحديثة، أصبحت اللحظة الشعرية في متناول القارئ، مع اختلافات نسبية بين القراء.
الأفراد يختلفون في عملية القراءة، بسبب تباين ثقافاتهم، تأتي لكلّ فرد لحظة كشف مختلفة عن الآخر، كذلك، للجميع تأتي لحظة كشف واحدة، تنبئ عنها خاتمة القصيدة، نكون هنا أمام نوعين من اللحظات الشعرية:
الأولى: فردية تختصّ بالفرد الواحد؛ حيث لكلّ فرد لحظته الشعرية الخاصّة، بعيدًا عن المجموعة وعن الفرد الآخر.
الثانية: جماعية يشترك الجميع في الوصول إليها، تحدث غالبًا في نهاية القصيدة.
مع كلّ كشف، تتجدّد اللحظة الشعرية، تنمو القصيدة بعدد اللحظات الشعرية؛ بعدد القراءات، تكون عرضة لتأويلات مختلفة؛ نتيجة اختلاف القرّاء، للفرد لحظته الخاصّة وللجميع لحظة عامّة.
تحدث نشوة القراءة؛ لأسباب متنوعة، تأتي من عناصر النص، أثناء تفاعلها، ترمي بنفسها في أحضان القارئ؛ كلما أجاد في الاستقبال، كانت النشوة أعلى.
الزمن المجرّد؛ الدالّ على “اللازمن”، على لحظة السكون والتوقف؛ يسبب حالة عالية من النشوة، بابتعاده عن التقريرية والوقتية والتحديد، ينطلق في الفضاء القرائي، يمثل حالة متجسّدة، غير محدودة.
لتوقف الزمن النصي، أثر فاعل في إعادة إدراك القارئ وفهمه، تصبح الأحداث متداخلة، تتشابك في بؤرة؛ تمثل البؤرة قلب النص النابض، إذا استقبله القارئ، استطاع بناء النص من جديد، وفق رؤيته الخاصة، لا رؤية الكاتب.
لحظة تشكيل القارئ لرؤيته، يأتي الإحساس بالنشوة، يندفع الإحساس إلى أقصى مدى ممكن، مع كل كشف جديد، مع كل لحظة شعرية آتية.
في إلغاء الأمكنة أيضًا، لحظة كشف آتية؛ الخروج عن الواقع، تجاوز الحقيقي، نسف المكان؛ يفضي إلى نشوة عالية.
إزاحة عنصري الزمان والمكان، تؤدي إلى شكل جديد، متصل بالحياة الإنسانية العامة، ليست تلك الحياة المتعلقة بالفرد، بل بجميع الإنسانية، يندفع النص إلى عالم آخر، لا يلتزم التحديد والإطار المفروض، يخرج من بيئته الراهنة، يستشرف الواقع، يأمل في المستقبل، يبني طموحاته في كون مستمر؛ لا نهاية له.
تتجلّى اللحظة الشعرية؛ لحظة الكشف، في البعد عن الإطار المرسوم عن القيود المفروضة على الشعراء والكتاب، يستلهم الحدث الإنساني، يعيد صياغته، يطلقه في فضاء عام، غير مقيد بزمان أو مكان؛ لتصبح التجربة كونية، صالحة للاستمرار.
يبقى أن التجربة لن تخرج عن إطارها الإنساني؛ المتصل بالراهن، بالآن، ستواصل إعطاء القارئ لحظات النشوة، ستقدم النهاية المفتوحة؛ غير المقيدة، ستمتد إلى أن تبلغ لحظتها النهائية؛ لحظة الختام، لحظة الكشف الكامل للنص، حينها سيتعرى أمام القارئ، بكل عنفوانه وجماله.
في النهاية، اللحظة الشعرية تبقى كامنة في جوف النّص، حالما يُخرجها القارئ، يكون قد وصل إلى حالة اللذة المصاحبة للكشف الجديد.
قصيدة المدح التقليدية تحصل على لحظة واحدة، كذلك قصيدة الهجاء؛ بسبب تشابههما في أسلوب التعامل اللغوي، حيث الهدف يتمثل في إبراز نوع من الرقي أو الانحطاط.
قصيدة الهجاء أتت كعمل تخريبي، ينسف قصيدة المدح، القصيدة الحديثة باتباعها أسلوب التخريب، تقترب من قصيدة الهجاء، إنما في حدود معينة.
التخريب الحديث لم يكتفِ بتحطيم قصيدة المدح، بل حطّم قصيدة الهجاء أيضًا، سعى إلى امتلاك اللغة؛ لتطويعها في الأساليب الجديدة، من أجل القيام بتفتيت اللغة، وإعادة بنائها؛ لتوليد العلاقات بين الكلمات.
التفتيت وإعادة البناء، دفع إلى تكوّن لحظات شعرية، كلّ لحظة مختلفة عن الأخرى، رغم توحّدهما في جسد واحد؛ مثقل باللحظات.
القارئ يأتي؛ لاقتناص لحظة شعرية، تكون مختلفة عن لحظة قارئ آخر، مما يدفع القصيدة إلى أن تكون عرضة للتغيرات والتقلّبات في استخراج الدلالات، تبعًا لاختلاف القراء.