قبل سنواتٍ، رحلت ربما جلستَ عند أحدِ الحلاقين تنتظر دورك في قص ما فاضَ من شعرك؟ ثم كان على طاولةٍ بجوارك كومةٌ من الصحفِ والنشرات الإخبارية، تنفض الغبارَ عنها وتنظر إلى التاريخِ ولكنه مر منذ سنتين أو أكثر! تلمح فيها بصماتِ أصابع من قرأها من قبلك وهم كثرٌ، ولكنك تلتقطها مرغمًا كي يمر الوقتُ دونَ ملل. وفيها قرأتَ أحداثًا مرت ظننتَ حينها أنها اختفت من الأخبارِ، بعضها أثارَ فيك العجبَ وبعضا هاجَ فيكَ الشجنَ وبعضها فقط هززتَ رأسكَ سخريةً لسخافة من كتبها! حتى تلك الصحيفة البائسة التي مللتَ النظر فيها سريعًا وصلتْ إلى صفحةٍ ليس بعدها أخرى قبل أن يحينَ دوركَ على كرسي الحلاق! على الكرسي كان حلاّق البلدةِ القديم يضيف الثرثرةَ وتبادل الأحاديث عما يدور بين الناسِ مما لا تجدهُ في الصحفِ وهوَ غير مكترثٍ بتجدد الأخبار والتسريحاتِ التي أضحت قديمةً مثل أخبارِ الصحفِ فالصالون كان عنوانًا لأخبارِ البلد ولا بدّ للحلاقِ فيه أن يعرفَ الجديد.
هكذا هي صحائفُ الأيامِ حتى تقلب آخرَ صفحةٍ فيها، لكن مهلًا فبين طياتِ صحائفِ الأيام المكرورة والمقروءة ربما تجد خبرًا يومًا ما يستحق عناء تقليبها بل قراءتها من جديد كل مرةٍ تنتظر موس الحلاق. في كل صحائفِ الأيام تتبلور اثنتان؛ واحدةٌ نكتبها نحنُ ثم يقرأها الناسُ بعدما ننقطُ آخرَ سطرٍ فيها وهي الصحيفةُ التي يقرأ الناسُ فيها كيف كنا بينهم، ربما غششناهمْ وقرأوا فيها الجمال، أو جهلونَا وقرأوا سطورًا سوداءَ لم نكتبها يومًا ما. أما الصحيفة الثانية فهي الصحيفةُ التي يكتبها اللهُ ونحن نقرأها بعد أن ينقط الملكُ آخرَ سطرٍ فيها. الحلاقُ وصحائفهُ وكل الصحفِ تكذب إلا هذه الصحيفة، كل ما فيها كان ونحن عملناه.
نحن الذين أناملنا تكتب صحائفَ أيامنا، ومن ثم الأيام تفرح بما كتبنا وسطرنا في صحائفَ بيضاء لا ينساها الزمان وتقول لنا: اهنأوا بما كتبتم أو تبكي الأيامُ وتقول لنا: لمَ كتبتم ما كتبتم؟ وبخلافِ صحائف الحلاق القديمة، يعطينا الناسُ والله فرصًا أن نمحو ونعيد كتابةَ بعض الأحداث قبل نهاية آخر فصولها، ومتى ما ختمناها، هم وحدهم قادرون على التغيير.
يأتي الربيعُ وتمحو الطبيعةُ من صحائفها كل خطايا العناصر التي قست عليها في الشتاء: البردُ والصقيعُ والمطر، ثم تعود خضراءَ يانعةً، إلا الإنسان يأتي الربيعُ والصيفُ والخريفُ والشتاءُ ولا يمكنهُ الصفح عن توافهِ الحياة. هل يأتي يومٌ يصنع فيه الإنسانُ آلةً تمسح من طاسةِ رأسهِ خطايا الآخرين، أو تعيد ذاكرته صحيفةً بيضاءَ يكتب فيها من جديد؟ لا تعجب فإن عشنا أنا وأنتَ طويلًا ربما جاء العلمُ بتلك الآلة!
أنا حينها سوف أمحو كل ذاكرتي إلا خطايا الصبا سوف أبقيها في شقاوتها، وسوف أمسحُ كل ما أثارت عواصفُ الأيام في وجهي، وما ذرت به الريحُ من عيني في مآقيها، إلا رياحُ الصبا سوف أستبقي نقاوتها وأستجديهَا: عودي رياحَ الصبا عودي، فقد ملت شراعُ الريحِ بحثًا عن مراسيها!