نارٌ من رؤوس القصب

رأيت شاباً جاء من أرض العرب، يبث الحزنَ في قصباتِ ناي، يكاد يشعلها من نار تنين الألم الذي يخرج مع كل نفس. شاي وسيجارة تلازم الناي هي كانت مكوناتُ الألمِ الذي لا يستريح حتى يخرج من رأسِ القصب. كيف لم يعطني صوته ودمعة عينيه ذاتَ الأحاسيس بموج الأسى دون الناي؟ بقي سراً لا أعرفه. انفخ دون صوتٍ يا عازف الناي، فلن ينساك الله!

متلازمةُ الغربة أصابت الكثيرَ من أبناء العالم وكان نصيب العالم العربي الأكبر منها، وكم تمنينا أن يكون نصيب عالمنا في إبداعاتٍ غير الاغتراب وفراق الوطن! حلم الناسِ أن يولدوا ويكبروا ويسافروا إلى أوطان العالم، لكن حلمهم الأكبر أن يقبرونَ في أرضِ الوطن. حلمٌ عرفته من أمي عندما كانت تقول في نار الغربة: “من ترك داره قل مقداره” و”الجمرة ما تكوي غير رجل واطيها”. وهي لو سألتها هل رأيتِ أحداً ترك داره؟ سوف تقول لك: لم يتركها إلا قسراً.

الأوطان تعرفها كل الكائنات، بعض الطيور تغادرها لندرةِ الغذاء وبعض الحيوانات طلبًا للكلأ والأمن، لكن بوصلتها المحفورة في طاسةِ رأسها يوم مولدها تناديها: تعالي عندما تخضر المروج، وعودي عندما تأتي الشمسُ بالدفء، والسماء بالمطر، وكلها تستجيب لنداء الأرض وتعود!

كانت مواويل الغواصينَ في البحر قبل عصر النفط “يا مال يا مال، ودعتكم بالسلامة يا ضوى عيني وخلافكم ما غمض جفني على عيني، واعدتني بالوعد لمن حفت عيني، ظليت يا سيدي جسمًا بلا روح”.. وبعدها شهر أو شهرين ثم يعودون، وكانت دون ناي القصب، وأشعار البدوي في غربة الصحراء دون ناي، لكن نار الغربة فيمن رأيتُ كانت طويلةً وكأنهم لن يعودوا إلى قصباتِ وأزقة الحارات التي خرجوا منها.

جاء النايُ من القصبِ البري من الشرق وطال بقاؤه في أرضها حزيناً يبث شكواه للعازفينَ ويبثون شكاويهم له، ولكن تبقى الأوطان كلها مستعارة إلا الوطن الذي نراه حين نرى أمَّنَا ساعةَ الميلاد وكما هي الحكمة البدوية “ثوب العيرة ما بيدفي وإن دفى ما يدوم، ثوب العيرة ما يدفي وإن دفى فوقه كله هموم”، وليس بعيداً عنه ما قيل:
يا عازفَ الناي صوتُ الناي أشجاني
قل أنت بيتاً وخـذ من آهاتيَ الثانـي
ما كدتَ تـنفـخ حتى باحَ مـا أخفـت
أنفاسُ صـدرك من حـزنٍ.. فأبـكانـي


error: المحتوي محمي