العنف الثقافي

يرى علماء النفس، وعلماء الاجتماع المعاصرون أن الثقافة ليست مجموعة من العلوم والمعارف والقراءات التي يتلقّاها الإنسان فحسب؛ وإنما هي عملية بلورة لما يتلقاه الإنسان من علوم ومعارف وقراءات يتبعها ترجمة عملية في ميادين الحياة المختلفة، وبالتالي فالثقافة هي السلوك.

ثقافة المجتمعات تختلف اختلافًا كبيرًا في شتى المجالات. من المجتمعات ما تأنس بالعيش فيها، وتتمنى ألا تغادرها أبدًا لما تحمل من قيم إنسانية عالية ، وتعامل حسن ممزوج بعلم، ومعرفة، ووعي خاص، ومنهم نقيض ذلك تمامًا بحيث تستوحش نفسك تلقائيًا، وتصبح مستأسدًا دون شعور، ومنهم من يميل إلى الفئة الأولى حينًا، وإلى الفئة الثانية حينًا آخر.

البيئة الهادئة المستقرة فكرًا وتعاملًا تنتج تربية فاضلة آمنة تعيش الاطمئنان النفسي بتجلياته الحقيقية، فضلًا عن الموضوعية في قراءة الأمور، والواقعية في علاج المشكلات.. يغلب على أفكارهم الهدوء الجميل الممزوج بحكمة بالغة ووعي خاص.. نفوسهم متألّقة وأرواحهم مشرقة ومتفائلة. تحب الخير، وتحسن الظن وتعيش بترابية، وعفوية تعكس معادنها الطاهرة.

ومن الناس من لا تعرف له وجهًا من قفى، بحيث يكون مع البيئة الإيجابية المطمئنة مؤازرًا بكل ما يملك من قوى مادية ومعنوية وبإخلاص منقطع النظير؛ غير أنك تجده أكثر الناس ضراوة وتعاملاً حين يكون في البيئة السلبية المتقلّبة المشتتة التي لا تؤمن بالفضيلة، ولا قيم الكمال الإنساني؛ وبالتالي تتشكل نفسيته، وميوله، وأفعاله حسب المحيط الذي يكون موجودًا فيه لحظة الحدث. حقيقة هو فاقد للهوية ولبوصلة التفكير.

ومن الناس من تربّوا في بيئات تحمل عنفًا فكريًا، وسلوكيًّا أصبح جزءًا من عاداتها وتقاليدها، ثم أصبح عرفًا، فتقليدًا، وفي نهاية المطاف أصبح ثقافة.. هؤلاء الناس تقوم ثقافتهم على التشكيك، والتخوين، وسوء الظن، والقسوة في التعامل، والحدة في الأسلوب.. لا طهارة – عندهم – لأحد مهما علا ولا شرف ولا أمانة بين الناس. أفكارهم سوداوية، ونظراتهم تشاؤمية بحتة في جميع الناس. يأنسون بالخلاف، ويحتفلون بالعداوة، والخصومة، يسعون للفتنة ويشعلون فتيل الصراعات، لا يأمنون بعضهم بعضًا، ولا يأمنون حتى أفاضل البشرية. مزاجهم حاد وأخلاقهم جافة، مزاحُهم محدود، وابتسامتهم نادرة، مصالحهم فوق كل اعتبار. أبناؤهم ينشأون على ثقافتهم فتتعاقب أجيالهم. إن قابلتهم باللين، والخلق الحسن، والأسلوب الراقي؛ احتقروك وأساءوا فهمك، وربما حسبوك نصف رجل. وإن قابلتهم بأسلوبهم تكون قد وضعت الزيت على النار لتحرق الأخضر واليابس على وجه البسيطة.

قلوبهم تخلو من الحب، والطيبة والجمال. لا كمال إنساني لأحد عندهم. لا يختلفون في مقاييسهم تجاه الناس مهما تباينوا. حواراتهم حادة، وعقيمة، وعقولهم حجرية. قلوبهم تحمل شررًا كاللهب الجهنمي. لديهم فجور في الخصومة يفوق في بشاعته وإسرافه كل قبيح، لا أدبيات لهم في العداوة، ولا أخلاق لهم في السلم.

ما ذكرناه أعلاه بعض صفاتهم، فكيف نتعامل معهم؟ وكيف نغير هذا المرض العضال في نفوسهم؟!

لا أحد منا يستطيع الجزم بأنه قادر على اجتثاث صفاتهم تلك مهما كان حجم التضحيات، ولكنّ محاولة التغيير المرحلية المرنة المنظمة المتوجة بأخلاق متزنة، وأساليب حذرة مخطط لها وفق دراسات وأطر معينة قد تكون سبيلًا للتغيير الإيجابي الذي يساعد على نشر ثقافة الحب، والتسامح عوضًا عن التشاؤم، وسوء الظن.

الحياة الفظة العنيفة تجعل أصحابها ضحايا أنفسهم وتنشئ مجتمعات رجعية تؤمن بالعادات أكثر من الدين ، وتعتبر الرجولة في القسوة، والحدة، والاستبداد، وتعيش على الصراعات، والاختلافات التي لا تموت، وتتأجّج كنار تحت الرماد.

وخلاصة القول: نحن نحتاج أن نتعمق في قراءة أنفسنا، وقراءة الوسط الاجتماعي الذي ننتمي إليه، ثم قراءة الأحداث، والأشخاص بموضوعية مجردة وإلا كنّا نحن جميعًا ضمن ركب قافلة العنف الثقافي دون أن نشعر.


error: المحتوي محمي