نواطيرُ العنب

من بابِ “وفَسَّرَ الماءَ بعدَ الجهدِ بالماءِ”، في لغتنا العربية الناطور هو حَافِظُ الكَرْمِ وحَارِسُ الزَّرْعِ وليس للعنبِ معنى سوى أنه أحد الفواكهِ المشهورة منذ القدم في منطقةِ الشرق الأوسط، وينتشر حالياً في معظمِ أنحاء العالم، نأكله لمذاقه الشهي ولفوائده التي تعود على أجسامنا بعديد المنافع، واشتهر بين من يعرف نفاسةَ العنبِ أن الحقولَ تحرسها نواطير فتبقى معضلة السراق كيف يسرقون الكرم؟

لا تعوزنا الحيلة نحن البشر في الخيرِ والشر وفي هذه الحالة سألنا أنفسنا: كيفَ لنا أن نقطفَ العنب دونَ قتل الناطور؟ سؤال مجازٍ في هذه الحالة، لا يعني سوى كيف نحقق النتيجةَ القصوى فيما نهم به بأقل ثمن، فاكهةٌ طيبة المذاقِ دونَ أن ندفع لها ثمناً! يحمل السؤالُ بين ثناياه الإجابةَ القريبة من الأخلاقيةِ في نفي القتل، فربما انتظرنا أن ينامَ الناطورُ أو يغفل عن حراسةِ العناقيدِ ثم سرقناها.

وإن شئنا أن نسرق العنب ولو قتلنا الناطور فليس علينا إلا تصديق نيكولا ميكافيلي (١٤٦٩ – ١٥٢٧م) الذي ولد في فلورنسا في إيطاليا وأتاح له وضعه الاجتماعي الحسن فرصةً للتعليمِ العالي في مجالاتِ مختلفة؛ الأدب، والقانون، والتاريخ، والفلسفة الذي يقول لنا “الغاية تبرر الوسيلة”، فهو يرى أن الهدفَ النبيل السامي يضفي صفةَ المشروعية لجميعِ السبلِ والوسائل التي تؤهل الوصولَ لهذا الهدف مهما كانت قاسيةً أو ظالمة، فلا أخلاقيات في الوسيلةِ المتبعة لتحقيقِ الهدف، وإنما كيف تلائم هذه الوسيلة تحقيق هذا الهدف.

وإن كنا مصدر إشعاع القيم والنبع الفائض الذي يرشدنا إليه الشاعر أبو الأسود الدؤلي فلربما لن تسمح لنا الأيامُ بالحصولِ على كل ما تاقت له أنفسنا، لكننا لن نخسر كل قيمنا في قتل النواطير وسوف يتبع الشرفاءُ آثار أحذيتنا في المشيِ في أزقةِ وطرقاتِ الكرامة:
لا تنـهَ عـن خـلقٍ وتأتي مـثلـهُ
عـارٌ عليـك إذا فعـلـت عظـيـمُ
ابدأ بنفسـكَ وانهـها عـن غيهـا
فإذا انتهت عـنه فأنـت حكـيـمُ
فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى
بالعـلم منـك وينـفـع الـتعـلـيـمُ

وإذا عجزنا عن سرقة العنب فالثعالبُ تعطينَا العذرَ في التقصير، إذ تَروي الخرافةُ الشعبية أنه كان ثعلب يتضور جوعاً عندما شاهدَ عناقيدَ العنب التي لا تفنى تتدلى من أيكةٍ عالية، كانت الشجرة مثقلةً بالعناقيد العالية، قفز الثعلبُ لكي يصل إليها عدةَ مراتٍ دون جدوى، فلما يئسَ من الوصولِ إليها مضى في طريقهِ وهو يقول: “على كل حالٍ إن العنبَ لم ينضج بعد، إنه حصرم”. لن يكون بمقدور حيوانٍ في حجم أو ذكاء الثعلب أن يهدينا أكثر في لومِ الأحوال التي نضع أنفسنا فيها ونعجز عن تحقيقِ النتائج التي ظننا أننا نصل إليها بالطرق التي نعرفها!

في كل مقاصدِ ومرامي الحياة وسائل تأخذنا نحوَ القمم لنطل من أعلى دون أن تزلق أقدامنا ونسقط عن الصخورِ العاتية وهناك طرقٌ محتومٌ عليها ألا تأخذنا سوى نحو المزالق، والقدر يقول لنا: أنتم وما اخترتم، كلوا العنبَ، لكن لا تختبروا عينَ الناطورِ ولا تقتلوه!


error: المحتوي محمي