نحنُ والحقل والبيدر

اهتدى الإنسانُ بفطرتهِ إلى إيجادِ ضوابطَ للنجاحِ والفشل في ما يُعمل فيه فكره وجَسده وأمواله، وفي المقاييسِ البدائية فكر في الحقلِ والبيدر، ومن ثم قالَ “الحقلُ طابقَ البيدر” أو “الحقلُ خالفَ البيدر. فلو كنا نزرعُ القمحَ وطابقَ نتاجُ الحقلِ ما جنينا فلا بأس، ويأتي الفرحُ إذا فاضت الاهراءُ والغصةُ إذا لم تمتلئ.

المعايير جزءٌ من دورة حياة الإنسانِ من مهدهِ للحدهِ دون أن يشعر. في ساعةِ الميلاد تقيس القابلةُ وزننا وطولنا وتخبر أمنا أن المولودَ يطابق تكتلاتِ أمثالهِ في الوزن والطول. تلازمنا تلك المقاييس في المدارسِ والجامعات وسنين العمل وفي تكوين الأسرة وحتى ما بعد الموت لِكُلٍّ درجة بحسبِ عمله في الدنيا.

في الصغر نحب أن نحوز لعبًا أكثر من أقراننا وأصدقائنا، وبعدما نكبر نود أن يكون عندنا مال أكثر ونجاحاتٍ أشد سطوعًا، ومكانةً يتنحى لنا الناسُ في المجالس، وفي ساعاتِ المرض يأخذ الطبيبُ نبض قلوبنا ويضعها في سلةِ أرقام نبض البشرِ من جنسنا وأعمارنا، وفي كل هذا نحن ندرك أننا نعيش في مقارناتٍ لا تنتهي مع بقيةِ من حولنا، وحتى من هو بعيد عنا.

نكاد نجزم أن لكل شيءٍ مقياسًا في النجاحِ والفشل، وإلا لن تستقيم الأمور. في ما ننتج أفرادًا ومجتمعات وشراكات ودول لا بدّ لنا من تلك المقاييس التي تعلمنا عن أدائنا وهل سوفَ نربح أم سوف نغلق أبوابنا إذا لم يتم تعديل المسار، وينقل عن ألبرت أينشتاين قوله: “الجنونُ هو أن تفعلَ ذاتَ الشيءِ مرةً بعد أخرى وتتوقع نتيجةً مختلفةً”. هل تصدق أنه حتى في الأشياءِ التي لا تقاس مثل السعادة والرضا يمكننا أن نصنع لها مقاييس!

يرغب من يضع مقاييسَ الأداءِ أن تكون مصنفةَ، فالتاجر ينظر إلى التاجرِ والزارعُ ينظر لنظيره الزارع، وقد تكون النتائج النهائية من ناحيةِ الفشلِ والنجاح قابلةً للمقارنة ولكن التفاصيلَ في الخطواتِ لا تتطابق فالنجارٌ قد يقيس كم بابًا يصنع، ولكن التاجر كم سلعةً باع وكل منهما يتلمس ما في جيبه من زيادةِ المالِ آخرَ كُلِّ شهرٍ أو سنة، والمجتمعاتُ تراقب نظائرها وكذلك الدول تقرأ وتراقب، وتستقصيْ نتاجَ الدول الأخرى وتهتم أن تسبقها.

تغيبُ هذه المقاييس في الأعمالِ الطوعية التي يتبرع فيها الإنسانُ بوقته أو ماله فالقليل يُحاسب نفسه في معاييرَ محددة وكثيرٌ من الناسِ يتعاطفون مع من يتبرع بوقته وجهده ولا يحاسبونه بصرامةٍ كما لو كان في مؤسسة ربحية. وفي الواقع عندما تغيب هذه المعايير في أي عملٍ نؤديه تكونُ النتيجة الفشلِ إن في العاجلِ أو بعدَ حين. وقد تفقد المعاييرُ روحها إذا أخرجناهَا عن أهدافها، فمثلًا نقارن نتاجَ منشأةٍ يجب أن تربح مع مقاييس كم خطوةٍ يمشيها الإنسان في الساعة، إذ في هذه الحالة لن تعطينا أيَّ مؤشرٍ ذا قيمة في النجاحِ أو الفشل.

إن كنا سائلًا أو مسؤولًا، أو لا ذا ولا ذاك، سوف نحتاج معاييرَ منطقية في كل شيء نفكر في إنجازه، وحين تأتي الرياحُ بما تشتهي سفننا وطابقَ الحقلُ البيدرَ لنا أن نفرح، وإن كذب الماء الغطاس، لنا أن نأخذَ لحظةَ تأملٍ في أدائنا أو في الكيفيةِ التي قسنا بها الأمور.


error: المحتوي محمي