ليتني لم أثِق

طبيعة الحياة البشرية تمر بمراحل مختلفة ومحطات متباينة تصل حد التناقض أحيانًا.. ولها جوانب مشرقة كما أن لها جوانب مظلمة.. فضلًا عن أن إشراق اليوم قد يكون ظلام الغد؛ والعكس صحيح بالطبع..

أحيانًا نعيش الإشراق، والظلام في ذات اليوم وبمعناهما الحقيقي؛ وغالبًا وفي مثل هذه الحالات يخضع الإنسان للأحزان والهموم أكثر منها للمسرات، فيعيش الطاقة السلبية بكل أبعادها ويطرد الطاقة الإيجابية بكل معانيها؛ وبالتالي يقع في خلاف المطلوب.

لا يوجد معيار دقيق لقياس الأخيار والأشرار في المجتمعات إلا الشارع المقدس، والأخلاق الفاضلة، والذوق الراقي المسلّم بصحته في كل المجتمعات.

غير أن تحديد الخير والشر في الخيرين والأشرار كحقيقة مسلّمة أمر صعب المنال واقعاً، لأن الأفعال والأقوال مرتبطة بالنوايا، والشفافية، وذلك أمر موكول إلى الله (جل وعلا) فحسب.

ولكن ما لا يدرك كلّهُ لا يترك جلّه؛ وبالتالي فنحن نحكم بظواهر الأمور لنقول: إن الخير مازال معقودًا في الناس من جهة، وإن المجتمعات المحمدية مازالت تحمل القيم السماوية من جهة ثانية، وإن هناك مخلصين يغرسون الكمالات الإنسانية ومازالوا يمارسون دورهم الرسالي العظيم من جهة ثالثة.. كما أن هناك أشرارا يتربصون بالخير والخيّرين.

الخيرّون هم سفن السعادة، وأرباب الفضيلة، وقادة الحب، وحمائم السلام، وعشاق الكمال والجمال والحس المرهف الطاهر.. ترابيون عشقوا الناس، والحياة، والسعادة، هم كتبٌ مفتوحة للجميع، مأمونو الشر، ولا اختلاف بين ظواهرهم وبواطنهم أبدًا.. يأنسون بسعادة الآخرين، ويتمنون لهم مستقبلًا مشرقًا كإشراق الشمس.. أخلاقهم الراقية، وذوقهم المميز جعل الناس تحسبهم ورودا متنقلة تُرى جميلة من كل الجهات؛ فالورود لا تختلف في جمالها باختلاف الزوايا.

أما الجانب المظلم للناس فهم بعض النفوس البشرية التي تعدّت على الحدود، ولم ترع لله حرمة فأوقعت آلاماً عظمى، وجراحًا قاسية في قلوب الآخرين وكأنّها لم تعمل شيئًا…

“حسبتك رجلًا…” كلمة تخرج من أعماق أعماق الإنسان، تحمل في طياتها أقصى درجات الألم، والوجع الممتد تجاه شخص ما، حسبته أخًا يومًا ما…

لا تكاد تخلو تجربة حياتية لإنسان ما – في كل الأزمنة – من هذا الواقع الأليم بكل أبعاده…

في أغلب الأحيان نجد ضحايا اللئام هم صفوة الصفوة في المجتمعات؛ بمعنى أنهم الذين يتعاملون بالفطرة السماوية والطهارة المحمدية..

لو سمعتَ القلوب الجريحة لوجدّتها تردد عبارة واحدة فقط: “ليتني لم أثِق، ليتني لم أُحب، ليتني لم أعرف” ببيان يختلف باختلاف الثقافة والعمر ومدى الألم…

أبدع الوصوليون في تحقيق غاياتهم أيما إبداع، وتفننوا أيما فن؛ حتى إنك تحسبهم ملائكة بشرية متنقلة، ومصاحف تنشر التلاوة بين الناس في بعض الأحيان…

نحن لا نملك الحكم القطعي على الناس لأنّنا لم نشق قلوبهم يومًا؛ ولكننا نحكم عليهم من خلال التجارب التي أصبحت كالشمس في رابعة النهار..

أشد الوصوليين ألمًا أو خطرًا هم الذين يزيفون الأحداث، ويحرفون البوصلة، ويغيرون المسارات ثم يتشكون المظلومية بعد أن أكلوا الحجر والمدر…

الانتهازيون كلماتهم دافئة، وتعاملاتهم حنونة، وملامسهم حرير؛ لكنهم يلبسون جلود قنافذ على قلوبهم لا تُرى بالعين المجردة أبدًا.. أفكارهم السوداء حرّفت العقل، والمنطق، والفضيلة فصار معيارهم عكسيًا تمامًا… روجوا لسوء الظن، وأشاعوا أحاديث الفحشاء، وسلبوا، ونهبوا، وافتروا وهم يبتسمون.. مارسوا الدهاء بأبشع صوره – مع الجميع – وبأساليب لم يعرف فنونها إبليس يومًا.

ثم وجدوا لهم من اقتضت مصالحه التواطؤ والمباركة ليكون لهم ستارًا عند اللزوم..

كثير من أهل المصلحة والنفع بارك لهم الخطى، وأيد، وأنشد؛ وهو يعلم الحقيقة القطعية {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم}… كلنا يعلم أن المجتمعات لا تخلو من الذين باعوا آخرتهم لدنياهم مقابل دريهمات قليلة..

من هنا نستطيع القول: “لو حجّمنا قلوبنا قليلًا، ووضعنا لها الحدود والضوابط الخاصة، وبأعلى درجات الذوق والحب والخلق، وأعطينا للعقول مجالًا للتصرف بحرية أوسع، وطبقنا الضوابط العامة في علاقاتنا وتعاملاتنا لم نندم يومًا، وبعبارة أدق قلّت خيبات أملنا وصدماتنا كثيرًا؛ بل وحفظنا أنفسنا، وأهالينا، وأموالنا من كل أحد بلا استثناء في أغلب الأحيان..

نحن لا نرى الوجه الآخر للإنسان، ولا نعرف عاقبة الناس، ولا نعرف من هم خلف الكواليس، ولا نستطيع الحفاظ على الفضيلة مستقلين؛ وفي الوقت نفسه نثق بمن لا يستحق، ونحب من كره الله لقاءه، ونأتمن الخائن، ونحتضن اللصوص الآدمية بإسقاطنا – عمدًا أو جهلًا – الحدود والحقوق والواجبات الشرعية.

ثم نصرخ بين أنفسنا: “حسبتك رجلًا” تارة، و”ليتني لم أثق” تارة أخرى، و”اتق شر من أحسنت إليه” في الثالثة…

علّموا أنفسكم أن العقول نعم لا تقدر بثمن، وأنها لا تتقاطع مع القلوب التي تنظر بعين البصيرة أبدًا.. فالقلوب التي ترى بعين البصيرة هي العقول التي ترى بعين البصر..

إن انقلاب الموازين وسيادة المتردية والنطيحة في المجتمعات، وضياع الفضيلة، وكثرة الحالات النفسية؛ ما هو إلا لهب من هذه النار المحرقة التي أهلكت البلاد والعباد..

حين يخون الأخ أخاه، ويسرق الشريك شريكه، ويحسد الرحم رحمه، ويعادي الصديق صديقه، ويُنكر الفضل والجميل، ويُِنسى المعروف، وينتشر القذف، والطعن، والتلاسن تدرك أن الدين كان لعقًا على اللسان ولم يدخل شيء منه إلى العقول والقلوب أبدًا.. بل تدرك أن الأخلاق والمثل والذوق لم يكن إلا قناعًا يرتديه بعض الوصوليين.

الدين أو القيم السماوية – القوانين والنظم – هي التي أوضحت الحدود، والحقوق، والواجبات التي يسود بموجبها الخير، والحب، والكمال الإنساني العام، وتحفظ البشر، والحجر، والمدر أينما كان وفي كل الظروف.

وخلاصة القول أضعها بين أيديكم في مقطوعتي الصغيرة هذه:

بعضُ القلوب شواطئٌ
رقّت وأخرى كالجحيم

فاختر لنفسك ما تشـا
حُـراً تصـاحبُ أو لئـيم

لا يبتغي خلـق الكـرام
من الأنام سوى الكريم

أمـا الأراذلُ والـلـئـام
عـدوّها القلب السليـم


error: المحتوي محمي