رحيل صاحب شراع بلا مرسى

مع تباشير صباح يوم الجمعة اقتربت من النافذة أستطلع الأجواء، هل انجلت الغبرة، نظرة خاطفة، تبدو أخف وطأة من أمس، تراوح بين انحسار و(غبشة)، بقاياها لم تزل تحجب الرؤية وتكدر المزاج، التقطت صورة بالجوال لرصد معالم الأشياء شبه المرئية، ملامح باهتة لمنازل وبقايا نخيل تلونهما ذرات الغبار بلون واحد، هممت بأن أرسل الصورة للأخ المسافر عبدالرسول الغريافي لأرد على صورته وهو مبتسم وسط الثلوج البيضاء، تعثرت أصابعي في الإرسال من كثرة الرسائل المتلاحقة، فتحتها وإذا بسيل من التعزيات على الخاص والعام، ما هذا؟

ميرزا الصالح في ذمة الله، يا ربي.. يا الله، شهقت من وقع الخبر، انكتمت أنفاسي المكتومة أصلًا من الغبار، أكاد أن أختنق، ضاق التنفس، يحيطني الذهول بارتجاف، ألعق الخبر بعطاس يوم مغبر، أصحيح ميرزا رحل عن حياتنا المغبرة المغبرة بالأوجاع والقهر والأحزان وتبدلات الأنفس وقسوة الأيام؟

تطلعت لآخر رسالة بعثها الراحل قبل يومين، يدعوني لمشاركة فنية خارج حدود الوطن، دعوات مستمرة يوزعها دائمًا على الأصحاب للاشتراك في الفعاليات الفنية وخصوصًا الخارجية المقامة في أكثر من بلد عربي، وإذا لم أرد عليه، لا ألومن إلا نفسي، حتمًا سيتصل ليسمعني رنين صوته ويقول لي مازحًا: “الكبر لله، ردوا علينا عاد، ولا احنا محنا قد المقام..”.

بآخر رسالة كنت أنتظر صوتك يا ميرزا لأستأنس بعتابك الشفيف، أرقبه أن يصلني، أتخيله سوف يأتي بين لحظة وأخرى، طال الانتظار، مغبر ذاك الجفاء المرتمي في ضجيج الحياة، صوتك وصلني أنين دون كلمات الوداع، أكاد لا أصدق، هل أمسك الأثير ليعيد أصداء صوتك صفوا كما الأمس؟ أي همس كنت تقوله لي: “دع الأيام تفعل ما تشاء”.

هل انجلى غبار اللامبالاة عن الأنفس الصادة عنك؟
آخر مرة رأيتك فيها وجهًا لوجه، قبل أكثر من شهر تقريبًا، حديث جمعنا في رحاب صالة جمعية الثقافة والفنون بالدمام، طلبتك لمشاركة فنية محلية وقلت لي: “علشانك سوف أشارك”، رددت عليك: “تسلم تسلم يا أبا حسين”، ثمة عتاب دائمًا يتسرب من عينيك في كل مرة، وأدرك حجم هذا العتاب.. وأي عتاب مرسل ولمن؟ من حقك علينا يا ميرزا الصالح أن تعتب، لأننا لم نقدرك وأنت على قيد الحياة، رحلت عنا على حين غفلة ونحن طوال الوقت غافلون عنك، ننعيك الآن بعد الرحيل، نكرمك غدًا ما الفائدة؟!

في آخر وقفة لي معك أردت أن أقيس ردة فعلك، لأواسي نفسك العزيزة، تساءلت أمامك بقول الحق، كلمة رددتها من وراءك كثيرًا، كيف نسوك يا ميرزا الصالح؟
من حفل تكريم رواد الفن في المملكة الذي أقيم في نهاية السنة الميلادية المنصرمة، وأوضحت لك حينها أنت ظلمت مع الأخ علي الهويدي، أنتما تستحقان أن تكونا ضمن تلك الكوكبة.

وأتساءل من الذي غيبك عن حفل التكريم أجهل من المنظمين لمكانتك؟ إذا كان البعيدون غفلوا عنك، فنحن ماذا فعلنا لك فلم أسمع عن تجمع تشكيلي كرمك أو جماعة فنية احتفت بمسيرتك، ربما منتدى الثلاثاء هو الاستثناء وقفت في منصته، بوقفة عابرة، تكريمًا كان على استحياء.

مسيرتك ثرية وغنية.. يا أستاذ ميرزا أنت من أول المدرسين المختصين لتدريس مادة التربية الفنية، في منطقة القطيف، أنت خريج الدفعة الثالثة من معهد التربية الفنية للمعلمين بالرياض سنة 1972م مع أربعة من أخوانك اثنين من صفوى؛ علي التاروتي وسيد طالب ٱل عدنان، ومن تاروت عبدالله الجشي ومن سيهات عبدالله مهدي.. أنت السباق في أولى المشاركات الفنية منذ أول انطلاقة معارض رعاية الشباب على مستوى المملكة..

ما زلت أتذكر شرحك أمام نائب أمير المنطقة الشرقية تركي العطيشان، ضمن معارض رعاية الشباب على قاعة بلدية الدمام عام 78م، استفضت شرحًا في وصف عملك، استفدت منك إقدامًا للتحدث في حضرة المسؤول وفلاشات الكاميرا، وأنا الخجول من ظلي، استفدت منك حديثًا عن الفن ومجالاته المتعددة نتيجة مكتسبك الدراسي وخبرتك التدريسية، أبحث عن صورك القديمة، لقد زودتني بالمعلومات الوافية عن بدايات عشقك للفن، مدونة ضمن مخطوط لم يزل حبيس أدراجي أوراق تناثر عليها الغبار من طول الزمن، إيه يا زمن ماذا فعلت بإنسان يستهويه الفن منذ الصغر لحد آخر لحظة من حياته، متيم بنظارة اللون وشعرية الكلمة، وزخرفة الحناء، تجول في ربوع موانئ الفن العربي والغربي، زاد إيقاعه بعد التقاعد؟

كلما ألتقيك أسألك أين حط شراعك يا ميرزا؟ تخبرني: متوجه للأردن، كنت في بيروت، ارتحلت لإسطنبول، طفت بالخليج، توقفت بتونس، مررت بالإسكندرية، وعرجت على القاهرة، وشرم الشيخ..

حصدت شرف المشاركات بألوانك النضرة، وخطوطك الدالة لفعل الخير تشجيعًا لأخوانك للانضمام معك، هادفًا للتعريف بفننا للآخر، مشددًا على أهمية الخروج من القوقعة، تشمر عن سواعدك برسم حي في الملتقيات، كم تبادلت الأحاديث الشتى بين مختص وأكاديمي وموهوب وأستاذة ودكتور، اكتسبت خبرات، ومعارف وكوّنت صداقات مع أقلام مثقفة وأصحاب أنامل واعية من بلاد العرب أوطاني، كنت سفيرًا باسم الفن والفنانين لمنطقتنا، شراعك لم يهدأ من التطواف في ربوع موانئ الفن.

يا ميرزا أين سيحط شراعك الآن؟ أقلب ديوانك الأول “شراع بلا مرسى” وأتهجى الإهداء، أتصفح كتابك روائع النقوش، أتمعن رسومك للأكف المخضبة بالحناء، المورقة بخطوطك المبدعة وأجر الآهات، وأردد غناويك الشعبية:
“تصورتك بدرًا يضوي في ليل الخاطر، ونجمة حب تتمايل بفرحة شوق من جفونك لا تسافر”

يا راسمًا الفرح على أنامل الصبايا ويا ناثرًا بهجة اللون لعشاق الفن لماذا سافرت عنا للأبد؟


error: المحتوي محمي