ينشغل فكرُ الأديب بالكلماتِ فتأخذه أينما ذَهَبَتْ. يسأله الناسُ أين أنت ذاهبٌ في قلمك؟ يقول: أنا على ظهرِ حصاني وأينما أخذني ذو الأربعِ أرجل أسير! الأمر أن الإنسانَ كلما بقي ممتطياً الأدبَ لا يعود هو ولا الأدب، ويبقى الأديبُ تائهًا فوق ظهرِ الكلماتِ يشبه غيره المجهول في كل العصور “أم عمرو”، يبكي عليه الناسُ ولكن لا يعرفونه، وإن حسنَ حاله صار من ذي أربعٍ إلى آخر “لقد ذهب الحمارُ بأم عمرٍ… فلا رجعت ولا رجعَ الحمارُ”.
كتبت مي زيادة، الأديبةُ التي لمعت بين (1866-1941م) في كل فنونِ الأدب، عشقها الكل وكتبوا فيها في حياتها وبعد موتها ولكنها حين توفيت في مستشفى المعادي بالقاهرة عن عمر 55 عامًا لم يمشِ وراءها رغم شهرتها ومعارفها وأصدقائها الذين هم كثر، سوى ثلاثة من أصدقائها، فقد توقف حصانها عن الجري في بحورِ نفاق من أحبوهَا، وهكذا تأتي الأفعالُ ناقصةً عند البشر. قالت هي عن نفسها “أنا امرأةٌ قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي، ودراساتي وقد انصرفتُ بكل تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة “الأيدياليزم” أي المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس”.
لن يغفرَ الناس للأديبِ الذي يعري فكره لهم سقطاته ولن يشكروه في نجاحاته، وهو لابد له أن يعيشَ خارج الكتاب والقلم ولا يكون فقط بارعًا في الكتابِ والإنسانِ المثالي، بل بارعًا في الإنسانِ العادي، الصادق والمنافق، العدو والصديق، والمسالم والوحش. يبقى جمالُ حصانِ الأدب في أنه يستطيع الكاتبُ أن يمتطيه في سوح الخيال بعيدًا عن تكتلات البشر. ليس على الكاتب إلا أن يصدق أن أفكاره صبايا وصبيات حسان يجالسنه في دجى الظلام، يأنس بهم ويعيدونه شابًا في فكرهِ وجماله وإن لم يحبهم حفر لهم قبورًا ودسهم فيها، دون جرم.
يبقى السر في كيفَ يرقص البشرُ على أنغامِِ “الواه واه” ولا يرقصونَ على أنغامِ الأدب والشعر الذي هو روحُ الإنسانِ وعقله بعد العلوم؟!