يوم كان الإنسان إنسانًا

نحن في زمن اختلاط المفاهيم، وعصر انقلاب الموازين، لقد أثبتت التجربة أن الصورة أصبحت قاتمة، ومعالمها عائمة، وأصبح كل شخصٍ يشخصها حسب هواه ويترجمها بمبتغاه، والبعض يرسمها من جديد حسب مقاييسه، وإن كان لا يجيد القياس، ويلونها حسب أحاسيسه وهو البعيد عن التجربة والمراس.

إنه الزمن أو بداياته ذلك الذي تمتهن فيه الإنسانية، حيث يختلط الباطل بالمعروف، والقبيح بالحسن، فلا تكاد تميز بينهما، ولا أحد يرشدك للحقيقة، فلربما يكون المرشد واهمًا فتضيع معه، ولربما يكون فاهمًا فيمسك عن القول والفعل، فيضيع، وتضيع أيضًا معه، لأنه سكت عن الحق ليكفي نفسه المؤونة.

لقد أدخلتنا بعض الممارسات الخاطئة والمخجلة في عالمٍ خيمت عليه المغالطات، واختلط فيه الحابل بالنابل، فلم نعد نفرق بين النفاق والمجاملة، ولا بين الرياء والصدق، ولا الفسق والتقوى، ولا بين الصلاح والباطل، ولا الفجور والفضيلة، حتى أصبح البعض يعتبر المسجد للعجزة والمتقاعدين، والصوم للمرضى وأهل الريجيم، والحج للمتنزهين والمتفرغين، والزكاة للمضطرين، وأضحى التسابق على الظهور بدل فعل الخير بالمستور، والركض وراء الضجيج والزينة، بدل الاتزان والسكينة، وكل ذلك يُبصم عليه بأنه الحق ولا شيء غير الحق.

أين كنا، وأين أصبحنا؟ ما الذي ينخر في العقول، وما هذا الاضطراب الذي يعترينا؟ أين ذهبت الحكمة، وإلى أين ولّى الاتزان؟ بعض التصرفات لا نقبلها من الصغار، فماذا يعني أن يقوم بها الكبار، والذين يفترض أن يكونوا هم القدوة الحسنة، والمثال الأسمى.

عالم غريب، أصبح فيه المعروف غريبًا، وكلمة الحق مشينة، والأمر بالمعروف لقافـة، والنهي عن المنكر صفاقة، وأنت لا تستطيع المقاومة، فإما الانجراف مع التيار، وإما الانحراف عنه، لتتهم بالخروج عن خط الجماعة، فتصبح منبوذًا، لا لشيء سوى لأنك قلت كلمة الحق، فلفظوها لأنها أصبحت غريبة في المقام، ومنسية المعنى، وعديمة الجدوى، في ظل ما خيم من إرهاصات قد أصبحت واقعًا عشعش في القلوب والمشاعر والوجدان، وصار الناس غير الناس والمكان غير المكان، والزمان ينصب المأتم على الإنسان، يوم كان الإنسان إنسانًا.


error: المحتوي محمي