قرأتُ مريمَ العذراءَ وعيسى (ع) في سورةِ مريم وتذكرتُهمَا مرتين، الأولى: عندما كنتُ صغيرًا، كانت أمي تطعمني الخبزَ الأصفر، الذي لا يزال يأتينا حتى بعدَ أن انضمت أمي لقوافلِ من مضى، مضمخًا بالسكرِ والبيضِ ورائحةِ التمر. أنبتَ الخبزُ الذي كانت أمي تجيء به ملفوفًا في خمارها الأسود، حتى لا يبردَ قبل أن يفرحَ بلمعانه وطيبَ مذاقهِ الصغار، نخيلًا باسقاتٍ تعشق عيسى ومريم، والثانية: ليلةَ ويوم 25 من ديسمبر، كانون الأول، عندما يحتفل قومُ عيسى (ع) الغربيونَ في ولادته.
كان خبزُ مريم (ع) تفوح منه رائحةُ التمرِ الذي تساقط من النخلةِ التي هزت جذعها الميتَ مريمُ العذراء حين كانت تبحثُ شرقيَّ بيتِ المقدسِ عن مكانٍ خالٍ من كل نوعٍ من التشويشِ والضوضاء حتى لا يشغلها شيءٌ عن مناجاتها ويصرفها عن ذكرِ الله ولو حينًا، مكانًا تجده أكثر صمتًا، وأشعة الشمس تسطع عليه كلَّ يومٍ تضفي عليه النقاءَ والبهجة. في ذلكَ المكان والزمان انتبذت مريمُ واعتزلت بصورةٍ متواضعة ومجهولة وخالية من كل ما يجلب الاِنتباه، وسرعانَ ما جاءتها الملائكةُ تبشرها بعيسى النبي (ع).
في الغرب، إذ تغلق المدارسُ والجامعاتُ وكل الأعمال أبوابها في مثلِ هذه الأيام، كنا نحصل على استراحةٍ من تعبِ الكتب، إما نعود فيها امتثالًا للعاطفة:
نقلْ فؤدكَ حيثُ شئتَ من الهوى
ما الحبُّ إلا للحبيبِ الأولِ
كمْ منزلٍ في الأرضِ يألفه الفتى
وحنيـنُه أبداً لأولِ منـزلِ
أو نبقى حيثُ كنا، حينئذٍ نرى الأفراحَ تأخذ في الغربِ ما فيه شبهٌ من أعيادنا. أما نحن الغرباء فنقضي الفسحةَ في السفرِ والاستمتاع بالثلوجِ وسكون الطبيعةِ في الشتاءِ البارد. أينما كنتَ ترى شجرةَ عيدِ الميلاد والشرائطَ الملونة، أكثر تقاليد عيد الميلاد انتشارًا والرمز الرئيسي له، شجرةٌ صنوبرية أو مخروطية خضراء مثل شجرة التنوب، أو الصنوبر، أو شجرة سرو أو شجرة اصطناعية من مظهر مماثل.
كان عيسى (ع) قريبًا من النبي محمد (ص) وبشر بقدومه ومن مريديه كثيرونَ ممن يحملونَ الروحَ المحبةَ للسلامِ ويحملونَ هموم غيرهم، ومنهم أطيافٌ دون ذلك في المحبة. في تاريخ الأممِ تصيبنا الحيرةُ كيف لا يستمع البشرُ لأصواتِ أنبيائهم الذين عاشوا وماتوا من أجلِ دعوتهم ليكونوا من أهلِ السلام! هؤلاء البشر هم ذاتهم الذين يشتركونَ في كُلِّ شيءٍ إذا اجتمعوا، ويحتربونَ في كل شيءٍ إذا اختلفوا، كلهم يحتاجون خبزَ القمحِ في الجسد وغذاءَ الروحِ في الأنبياءِ والرسل!
مرحبًا يا عيسى، عليكَ السلامُ يوم وُلدتَ يا تحفةَ السماءِ ويوم تَموت ويوم تُبعث حيًا، أنتَ “رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ”. قومُ محمدٍ يحبونك وأمكَ العذراء، ومتى ما جاءَ يومُ ميلادك ابتهجوا به رجاءَ أن يصلوا خلفكَ أنت والنبي محمد (ص) وكل الأنبياء. لم يزل لونُ وطعمُ خبزِ أمكَ العذراء يذكرني وصاياكَ في أمي: “وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا” ولم يزل يسألني:
شطَّ بنا النَّوَى، متى يحط الركب؟
وطالت العتمةُ، متى يأتي نورُ الفجر؟
أوجعنَا ألمُ المخاضِ، متى يأتي المولود؟