جاءَ بردُ الشتاءِ معتدلًا في طولِ الليل، فرأى السُّمارُ أن يتذكروا بعضًا من الماضي في رحلةِ الحياةِ من تشابه ثقافةِ المجتمعاتِ وتنافرها. قلت لهم: أنا من سوفَ يعلق جرسَ الذكرى دون أن يحكم على ما رأى!
في حصةِ الكيمياءِ الأساسية، عام 1981م، كنا حوالي ثمانينَ طالبًا من جنسياتٍ متعددة، من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وطلابًا من أمريكا الشمالية، البلد التي كنا فيها. أنا تركتُ جزيرتي لم ترَ عيني كثيرًا من النساءِ واصطدمتُ بالطالبِ الأمريكي وصاحبته الأمريكية التي كانت تجلس في حضنهِ دونَ احترامٍ واحتشامٍ في نظري. عندما تركت الدارَ كانت أمي لا تخرج من بابِ دارنا دونَ الخمارِ والرداءِ الأسود الذي يغطيها من قمةِ رأسها إلى أخمصِ قدميها وأقصى ما لبست كان رداءً أسود مطرزًا بخطوط بنية اللون.
لم يستهجن الطلابُ من أمريكا ما كانوا يرون في الصفِّ من علاقةٍ كانت عَاديةً جدًا في ثقافتهم، ولم تعتبرها الجامعةُ إخلالًا بالأدبِ والعرفِ العام، الذي لم يكن سوى في ذهنِ من لم يعتد عليه، ولم يتوقف الأستاذُ “مَكَين” عن شرحِ الدرسِ المقرر. تحيرتُ أكثر عندما تذكرتُ أمي وصويحباتها يجلبونَ الماءَ من مسافاتٍ بعيدة، ويعتنينَ بالمنزلِ والأبناء، والعمل في مزارعِ النخيل في أقسى ظروفِ العيشِ ولم يتمردواْ على ما كان يجري لهم. لم يكن الرجلُ مرتاحًا في حياته، أو قاهرًا للنساء، ولكن كانَ يأخذ أكثرَ مما كان له أن يأخذ!
مشاهد النساءِ في الصغر “في الشرقِ والغرب” تشابهت في “جوانبَ” منها مع السيدة أمينة: زوجةُ السيد أحمد عبد الجواد في خيالِ الأدب العربي. إذ تتسم أمينةُ بكل صفاتِ ربةِ البيت والطاعةِ العمياء للزوج واعتباره سيدها وعدمَ الجرأةِ على مواجهةِ زوجها بأخطائه أو حتى مجرد نصحه. وهي في الجانبِ الآخر تحمل كُلَّ الصفاتِ الجميلة للأمِّ من طيبةٍ وحنانٍ ورعايةٍ لشؤون المنزل.
أما سيد البيت، أحمد عبد الجواد؛ فهو صاحب شخصيتين، في البيت هو الزوج والأب الصارم، صاحب الهيبة والنفوذ، والمحافظ على أداءِ الصلوات. ومع أصدقائه هو الصديقُ المرح، الذي يسهر كل ليلةٍ مع أشياءَ ليسَ العفافُ شيئًا منها، يتوب عنها ثم يعود إليها.
لم تعد القريةُ قريةً في العالم أو المدينةُ مدينةً، وأمينة إما هي التي لا تزال أمينة ذاتها والسيد أحمد عبد الجواد لا تزال فيه صفاتُ القهرِ والجبروت، أو صارت أمينة التي لم تعد تعترف إلا بالقليلِ من المعروفِ لشريكِ الحياةِ وإن كان أنقى من السيد أحمد عبد الجواد!
تتنازع الثقافات حبُّ البقاءِ في الماضي وحبُّ الذوبان في الغير دونَ النظر في استقلاليةٍ تامة، تجعلها ترجماناً لشرائعِ الإنسانِ والسماء، ذلك الاستقلال الذي يضمن لها الاستمرارَ والتميز. وينتج عن الصراعِ الذي يشبه الخيول التي تجر إنسانًا مربوطًا في جهاتٍ مختلفة أن يموتَ الإنسانُ دون أن يستطيعَ الدفاعَ عن نفسه.
نفرح أن محوري الشرق والغرب لا يلتقيان إلا في نقطةِ التقاطع “سارت مشرقةً وسِرتُ مغربًا.. شتانَ بين مشرقٍ ومغربِ”، وتبقى حقيقةُ أمينة وعبد الجواد نائمةً بينَ طياتِ رواياتِ الزمن!
تصبحونَ على خير!