السعادة القصوى

ليست السعادة مساحة من الأرض، ولا هي وجبة من مقادير، وهي كذلك ليست مجموعة من أنفاس اتفقت على إيجادها من بين أدغال السراب.

السعادة أحاسيس صادقة، ومشاعر جياشة، تمامًا كما الحب، بإمكانها أن تشتعل داخلنا، نصنعها أو نتصنعها حتى في ذاتنا، ولكن بشروطها، فهي تحتاج إلى الصفاء لكي يحتويها، فلا يمكن لها أن تختلط بهموم الذات، ولا بغموم الدنيا، السعادة نقية، وهي تحتاج لذات النقاء الذي يتماهى معها وبها.

السعادة مخلوقة زاهية، وليست حلة يمكن أن نختلقها ونتلبسها، فقط نحن نتهيأ لها لتأتينا، تحتوينا، نرتدي لها أثواب الصفاء، بعد نزع سرابيل الشحناء والبغضاء والجفاء، وفقط وفقط بعد أن نرفع الأكف للسماء بالدعاء، ونبتهل وندعو أن نكون مع اليقين قرناء، وبه صلحاء.

لا يمكن للسعادة أن تتأتى مع الظلم، ولا مع الحقد والضغينة والكيدية، لا يمكن لها أن تتماهى مع السراب ولا الشتات والضياع ولا الفراغ، ولا مع اللاشيء، والذي يمثله ذلك الإنسان الميت الوجود، الحي بلا معنى، السعادة نتيجة وليست غاية في معناها الأولي، لأنها لا تأتي من غير الشعور بالرضا، هذا الرضا العجيب والذي ما أن تصل إليه حتى تشعر بالانتشاء والغبطة والفخر، وتلك هي السعادة في جانبها الأسمى، ولكن أي رضا هذا الذي نعنيه؟

الرضا الذي نعنيه هو رضا الإنسانية الحقة والتي جبلت على الإيمان التام بالغاية الوجودية، والطاعة العبودية، والتي من أجلها خلق الإنسان، وإليها ينشد كغاية قصوى تنتهي برضا المعبود (عزَّ وجلَّ)، حين يكون عبدًا حقًا، هذه العبودية هي ميزان الأفعال ومقياس اليقين الذي تنطلق منه سيرة الذات المنشودة، من بداية التكوين وحتى ساعة النهاية المؤقتة، والتي منها النقلة السعيدة التي يتمناها كل ذي حظٍ عظيم، وليس أعظم وأرجى من أن تعود الروح لبارئها راضية مرضية.

لهذا فإن حسن الخاتمة ليس بعبرة الختام، ولكنها السيرة بالدوام وبكاملها على التمام، من البداية إلى النهاية.

فالكتاب لا يستثني شيئًا، وهو لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ونعم هو يتوب ولكن ليست توبة النهايات، وإلّا فاز بها فرعون حين آمن بإلـٰه موسى، وليس هذا هو الإيمان اليقيني، والتوبة النصوح، حين آمن بإلـٰه موسى وهو اعتراف منقوص وتسليم المستسلم.

وكأن الشيطان الرجيم أقرب منه إلى الله؛ لأنه يؤمن برحمة ربه حين يلتفت في طلبها ذات خسران، ولكن الأعمال هي المقياس، والتوبة والرحمة درجات، والشفاعة هي غاية الغايات، وأهلها هم فقط وفقط عين الحياة وسفن النجاة والتي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهلك وخاب، وفقد سعادة الدنيا والآخرة، ونال حظه الأوكس، وخسر السعادة القصوى، جعلنا الله وإياكم من أهلها بحق محمد وآله الطاهرين، صلوات الله عليهم أجمعين.


error: المحتوي محمي