لعل أهم ما يهدد الدول الوطنية في منطقتنا هو غياب الثقة السياسية بين القوى الاجتماعية المختلفة وبين المواطنين والأنظمة السياسية، ولعل ذلك من أسباب التدهور القائم والمستمر في التوترات السياسية والتي تأخذ أشكالا عنيفة أحيانا بين هذه الجماعات وداخل الدولة الواحدة. كما أن غياب الثقة السياسية بين الدول سبب رئيس في توتر العلاقة والتصعيد المستمر بينها، بحيث يغدو موضوعها شرطا أساسيا لتحسين العلاقة وإعادتها لطبيعتها. إن بناء الثقة السياسية أصبح علما من علوم السياسة له مفاهيمه الخاصة ونظرياته وطرق قياسه ومعرفة حجم ومدى تأثيره داخل الدول وخارجها، فقد أشارت الأمم المتحدة في مؤتمرها حول «بناء الثقة في الحكومة» في فيينا عام 2006م إلى أن الثقة السياسية تشير إلى وجود توافق في الآراء فيما بين أفراد المجتمع حول القيم والأولويات والاختلافات المشتركة، وبالتالي تهيئة الظروف اللازمة لتحقيق التكامل الاجتماعي والاستقرار السياسي. كما تنشأ الثقة من الحاجة الملحة للتفاعل مع أفراد المجتمع، وما تتطلبه هذه العلاقة من الاعتماد على الآخر لتحقيق هدف معين، ولكي تنشأ هذه الثقة بصورة متوازنة فلا بد أن تكون العلاقة بين الطرفين خالية من القلق.
ومنطقتنا العربية تعيش اهتزازا واضحا في هذه الثقة السياسية البينية بسبب الأحداث التي مرت وتمر عليها، حيث إن هذه الأحداث والتطورات أوجدت فراغا كبيرا بين مختلف الأطراف، ونتج عنها توجس وقلق كبيران أدى إلى انعدام الثقة وإلى اعتماد سياسات ومواقف وإجراءات تعبر عن حجم القلق الكبير السائد. ومع تصاعد التوترات البينية تتسع المسافة الحوارية المباشرة مما يعني المزيد من التدهور في الثقة وخاصة مع توفر أجواء دافعة لذلك وجهات محرضة عليها. وعلى الرغم من التكلفة العالية ماليا وسياسيا وتنظيميا للإجراءات المتخذة التي يتخذها أي طرف تجاه الأطراف الأخرى، إلا أنها تصبح ضرورة في ظل انعدام وغياب الثقة السياسية. وما لم تعد الثقة السياسية كأساس في العلاقات البينية، فإن مؤشرات التوتر ستظل متصاعدة وستدفع بالمزيد من التوجس والقلق.
ومن الطبيعي أن تسيطر هذه الحالة الاستثنائية وما يستتبعها من إجراءات على المشهد السياسي العام، خارجيا وداخل كل قطر عربي، فحتى العلاقات البينية – السلطة والمجتمع – ينتابها بعض الفتور والضمور بصورة أو بأخرى، وتتعزز حالة عدم الثقة بسبب الإجراءات المتبادلة التي يرى كل طرف بأنها تأتي مقابل مواقف الطرف الآخر. وفي ظل غياب جهات محايدة تعمل على معالجة بناء الثقة وإعادتها لطبيعتها، فإن ذلك يعني المزيد من الخسائر والأضرار والتضحيات التي تنتج من اعتماد سياسات وإجراءات مستمدة من حالة عدم الثقة بين الأطراف المختلفة.
داخليا، تتعزز الثقة بين الدولة الوطنية والقوى المختلفة من خلال سعي كل طرف إلى تغليب المصالح الوطنية العليا والانفتاح والحوار المباشر للتعرف على أوجه التوجس والقلق لدى كل طرف تجاه الآخر، والعمل على تقديم ما يبرز حسن نية كل طرف تجاه الآخر لتنمية علاقات إيجابية متبادلة. وعلى الصعيد الداخلي، عادة ما تكون الدولة هي الأكثر قدرة على القيام بمبادرات تعبر عن حسن النية وتهدف لمعالجة وتخفيف التوترات الناتجة كإطلاق برامج تعزز من الشفافية والمحاسبة والمشاركة المجتمعية، أو الإعلان عن مبادرات سياسية تخلق أجواء مطمئنة وتحتضن الجماعات الوطنية المختلفة والمتعددة. وينبغي أن يقابل ذلك مواقف إيجابية تعزز هذه التوجهات وتنمي العلاقة الإيجابية وتهيئ لفرص حوار وطني بناء وفاعل.
أما على صعيد الأوضاع الخارجية – بين الدول – فمن المؤكد أن استمرار التوتر المبني على عدم الثقة يعيق حدوث أي تفاعل إيجابي بينها، وبالتالي يتكبد كل الأطراف خسائر كبيرة ومتواصلة، واستمرارا في التصعيد السياسي والإعلامي، واستبعاد أي فرص تعاون وتبادل تجاري وخلافه. وفي كثير من الأحيان تصل الأطراف – بعد مرحلة من الصراع – إلى قناعة بضرورة إنهاء الخلافات بينها عندما تتبدل الظروف المحيطة أو أن تنبري جهات محايدة لمحاولة الوساطة بين هذه الأطراف وإعادة بناء الثقة بينها. من المؤكد أن الثقة السياسية هي تبادلية ولا يمكن أن تكون من طرف واحد فقط، وأن بناءها يتطلب فترات زمنية ليست قصيرة، حيث إنها تبنى بصورة تدريجية ومتواصلة، وقد يحدث خلالها بعض الخلل أيضا كما هو الحال في أية علاقة بين طرفين أو أطراف متعددة.
لا شك أن عملية بناء الثقة السياسية تحتاج إلى جهود كبيرة وإلى نفس طويل ومواجهة العديد من التحديات والعقبات، إلا أنها مع كل ذلك وفي نهاية المطاف تعتبر أفضل وسيلة إلى إقامة علاقات قوية ومستمرة وبعيدة المدى، وبالتالي التخطيط للمصالح الاستراتيجية المشتركة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. من هنا فإن هناك ضرورة ملحة إلى دراسة ونقل تجارب بناء الثقة في الداخل الوطني والإقليمي، كي نقلل من الأضرار المترتبة على استمرار التوترات والهواجس وكي نبحث عن فرص العمل المشترك في أجواء وبيئات إيجابية وبناءة.
اليوم